أصدرت الحكومة الصينية، اليوم الأربعاء، توجيهات رسمية تُلزم جميع مشاريع مراكز البيانات التي تحصل على تمويل حكومي باستخدام رقائق ذكاء اصطناعي محلية الصنع فقط، في خطوة تعتبر من أكثر الإجراءات جذرية في مساعي البلاد لفك الارتباط عن التقنية الغربية.
وأكدت مصادر مطلعة لوكالة “رويترز” أن القرار الجديد يشمل كل مشروع مدعوم من المال العام، سواء كان تمويلًا مباشرًا أو جزئيًا من أي جهة حكومية. ويهدف هذا التوجه إلى ضمان أن تعتمد البنية التحتية الرقمية في الصين على مكونات داخلية بالكامل، في ظل تصاعد المواجهة الاقتصادية والتقنية مع الولايات المتحدة.
تعليمات صارمة للمشاريع قيد الإنشاء
أوضحت المصادر أن السلطات التنظيمية أصدرت خلال الأسابيع الماضية تعليمات لمراكز البيانات التي لا تزال في مرحلة البناء بإزالة أي رقائق أجنبية كانت جزءًا من مخططاتها، أو العدول عن خطط شرائها مستقبلًا. أما المشاريع التي تجاوزت نسبة 30% من مرحلة التنفيذ، فسيتم النظر في وضعها على أساس كل حالة على حدة، بحيث يُسمح ببعض الاستثناءات المؤقتة قبل التحول الكامل إلى الرقائق المحلية. وتشير هذه التوجيهات إلى رغبة واضحة لدى القيادة الصينية في تقليص الاعتماد على الشرائح الأمريكية الصنع، ولا سيما تلك المنتجة من شركة إنفيديا (NVIDIA)، التي تعد المزود الأبرز عالميًا لرقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
وتُعد هذه السياسة واحدة من أقوى الخطوات التي اتخذتها بكين في إطار سعيها للتحرر من الاعتماد على التقنية الأمريكية. فهي تأتي في وقت يشهد فيه العالم تصاعدًا في الحرب التقنية بين الصين والولايات المتحدة، خصوصًا بعد القيود الأمريكية المشددة على تصدير الشرائح المتقدمة إلى الأسواق الصينية، بذريعة المخاوف الأمنية والعسكرية.
كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد صرّح مؤخرًا بأن بلاده “لن تسمح للصين بالحصول على الشرائح الأكثر تقدمًا من إنفيديا”، إلا أن بكين قررت المضي قدمًا في بناء منظومة مستقلة، ما يوجه ضربة قوية لطموحات الشركة الأمريكية في استعادة موطئ قدم داخل الصين، ويمنح في المقابل شركات محلية مثل هواوي تكنولوجيز وكامبريكون فرصًا أكبر لتعزيز حضورها في السوق المحلية.
تأثيرات مباشرة على الشركات الأجنبية
بحسب تقارير تحليلية، فإن شركات مثل AMD وإنتل وإنفيديا ستكون من أبرز المتضررين من القرار، إذ يُتوقع أن تفقد نسبة كبيرة من مبيعاتها في الصين التي كانت تمثل واحدة من أكبر أسواقها في العالم. كما تشير مراجعة لبيانات حكومية إلى أن مشاريع مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي في الصين جذبت تمويلات حكومية تتجاوز 100 مليار دولار منذ عام 2021، ما يعني أن غالبية هذه المشاريع قد تكون خاضعة للتوجيهات الجديدة.
وأكد أحد المصادر أن بعض المشاريع تم تعليقها بالفعل، من بينها منشأة في شمال غرب البلاد كانت تخطط لاستخدام رقائق إنفيديا، إلا أنه تم تجميد العمل فيها بعد صدور التعليمات الجديدة. وتأتي الخطوة الصينية ردًا على سياسات واشنطن التي فرضت خلال العامين الماضيين قيودًا واسعة على تصدير الرقائق المتقدمة ومعدات تصنيعها إلى الصين، بهدف الحد من قدراتها في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة. وتبرر الإدارة الأمريكية هذه الإجراءات بالقول إن التقنيات المتقدمة يمكن أن تُستخدم لأغراض عسكرية.
وفي المقابل، تبنت الصين سلسلة من الإجراءات لمواجهة هذه القيود، شملت حظر منتجات شركات أمريكية مثل ميكرون، وتشجيع الشركات المحلية على تطوير بدائل وطنية قادرة على تلبية احتياجات السوق. كما دشنت الحكومة مؤخرًا مراكز بيانات تعمل حصريًا على رقائق صينية، في إطار مشروع طويل الأمد لتأسيس سلسلة توريد مستقلة بالكامل، بدءًا من التصنيع وحتى البرمجيات.
ضغوط على إنفيديا وتراجع حاد في حصتها
في ظل هذه التطورات، تراجعت حصة شركة إنفيديا من سوق رقائق الذكاء الاصطناعي في الصين من 95% في عام 2022 إلى ما يقارب الصفر حاليًا، وفقًا لبيانات الشركة. ويُذكر أن الرئيس التنفيذي للشركة جينسن هوانغ حاول مرارًا إقناع الإدارة الأمريكية بالسماح بتوسيع مبيعات الشرائح إلى الصين، مشيرًا إلى أن إبقاء الشركات الصينية معتمدة على التقنيات الأمريكية يخدم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، غير أن الضغوط السياسية حالت دون ذلك.
وتشمل القيود الجديدة أيضًا شرائح H20 من إنفيديا، وهي أحدث وأعلى الشرائح أداءً المسموح بتصديرها إلى الصين، إضافة إلى المعالجات الأقوى مثل B200 وH200، التي لا تزال تُمنع رسميًا من الشحن إلى الصين لكنها تُباع عبر قنوات السوق الرمادية. ومن المتوقع أن تمنح السياسة الجديدة دفعة قوية لشركات تصنيع الرقائق الصينية، وعلى رأسها هواوي وكامبريكون وMetaX وMoore Threads وEnflame، التي بدأت بالفعل بإنتاج معالجات منافسة لرقائق إنفيديا وإن كانت أقل تطورًا من الناحية التقنية.
لكن في الوقت نفسه، يحذر خبراء من أن استبعاد التقنية الغربية قد يبطئ تطور قدرات الحوسبة في الصين، إذ لا تزال الشركات المحلية تعاني من قيود في توريد معدات تصنيع أشباه الموصلات نتيجة للعقوبات الأمريكية المفروضة على الشركات المزودة لهذه الأجهزة. وتواجه شركات مثل SMIC، أكبر مصنع رقائق في الصين، صعوبات في إنتاج المعالجات الأكثر تقدمًا بسبب القيود المفروضة على استيراد المعدات المتطورة من الخارج، ما يجعل الفجوة التقنية بين بكين وواشنطن مستمرة على المدى القريب.
وتؤكد هذه التطورات أن التنافس بين القوتين العظميين لم يعد اقتصاديًا فقط، بل أصبح سباقًا محمومًا على من يمتلك البنية التحتية الذكية للعصر القادم. فبينما تضخ شركات أمريكية مثل مايكروسوفت وميتا وOpenAI مئات المليارات من الدولارات في بناء مراكز بيانات عملاقة تعتمد على رقائق إنفيديا المتقدمة، تسعى الصين لتأسيس نموذج بديل يعتمد بالكامل على قدراتها الذاتية، حتى وإن تطلب ذلك التضحية بالسرعة والتكلفة في المدى القصير.
ويرى محللون أن هذه التوجيهات الجديدة تمثل مرحلة جديدة من سياسة “الانفصال التقني” بين البلدين، حيث تسعى كل قوة لبناء منظومة رقمية مغلقة قادرة على دعم استراتيجيتها في الذكاء الاصطناعي، ما ينذر بانقسام عالمي في سلاسل التوريد التقنية لعقود قادمة.














