في عالم تتسارع فيه الحروب التكنولوجية أكثر من الحروب العسكرية، يبدو أن الصراع بين واشنطن وبكين لم يعد محصورًا في الرسوم الجمركية أو سباق التسلح، بل انتقل إلى ساحة العقول.
فبينما ترفع الولايات المتحدة تكلفة تأشيرة العمل الشهيرة «H-1B» إلى 100 ألف دولار سنويًا، تكشف الصين عن تأشيرة جديدة أطلقت عليها اسم «K» تستهدف استقطاب مواهب التكنولوجيا والعلوم من الخارج.
يأتي هذا التطور بعد إعلان إدارة ترامب مضاعفة الرسوم على تأشيرات العمل، في وقت تواجه فيه الجامعات الأمريكية تقليصًا في ميزانيات البحث العلمي. هذه الإجراءات فتحت الباب أمام ما يسميه الخبراء «نزيف الأدمغة المعاكس»، إذ انتقل أكثر من 85 عالمًا وباحثًا من الولايات المتحدة إلى مؤسسات صينية منذ بداية 2024، بحسب إحصاءات شبكة CNN.
وبالمقابل، ضخت الصين استثمارات قياسية في البحث العلمي تجاوزت 780 مليار دولار عام 2023 (مقارنة بـ823 مليارًا في الولايات المتحدة، وفق بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية). وهو ما يوضح أن السباق على العقول أصبح جزءًا من معادلة الأمن القومي لدى بكين، كما أعلنه الرئيس شي جين بينغ حين قال: «تزدهر الأمة بازدهار علومها وتقنياتها».
التأشيرة التي يبدأ العمل بها هذا الأسبوع لا تطلب من المتقدم عرض عمل مسبق، بل تمنحه فرصة الإقامة والعمل مباشرة. وهي خطوة غير معتادة في بلد يُعرف بتشدده في سياسات الهجرة. يقول المحامي الأمريكي مات ماونتل-ميديتشي: «الرمزية هنا قوية: بينما ترفع أمريكا الحواجز، تخفضها الصين».
وبينما ظلت تأشيرة H-1B عقبة أمام كثيرين بسبب قلة المقاعد السنوية (85 ألفًا فقط)، تأتي الخطوة الصينية لتقدّم نفسها كخيار بديل للشباب من تخصصات العلوم والهندسة والرياضيات.
كانت الهند المستفيد الأكبر من تأشيرات «H-1B»، إذ حصلت على 71% من حصصها العام الماضي. لذلك يرى خبراء أن التأشيرة الصينية قد تجذب خريجي الهند الباحثين عن فرص أكثر مرونة. يقول بيكاش كالي داس، الطالب الهندي بجامعة سيشوان: «إنها بديل مغرٍ للباحثين عن مسارات أبسط وأقل تكلفة».
لكن هنا تبرز اللغة كعائق آخر، فمعظم شركات التقنية الصينية تعمل بالماندرين، ما يضع حاجزًا أمام الوافدين الجدد. ويضيف المحلل مايكل فلر: «على الصين أن تضمن أن يشعر الهنود بالترحيب، وأن يجدوا عملًا ذا قيمة حتى دون إتقان الماندرين».
رغم كل المغريات، تبقى هناك شكوك، فما زالت الصين لا تمنح الجنسية للأجانب إلا نادرًا، وسياسات الإقامة طويلة الأمد لم تتضح تفاصيلها بعد. كما أن التوترات السياسية مع دول كالهند قد تحد من جاذبية التأشيرة الجديدة.
لكن الصورة الكبرى تقول شيئًا آخر، فحتى إذا لم تتحول الصين إلى وجهة المهاجرين الأولى، فإنها على الأقل تستغل كل خطأ أمريكي لتعزيز مكانتها. وكما وصف أحد الأكاديميين: «اللحظة هدية من واشنطن إلى بكين».
المعادلة الآن تبدو أبعد من مجرد أرقام تأشيرات ورسوم. إنها صراع على من يملك القدرة على رسم مستقبل الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر الكمي والطب الحيوي. الولايات المتحدة اعتمدت تاريخيًا على استقطاب العقول المهاجرة لتظل في الصدارة، بينما تحاول الصين بناء جاذبية جديدة قائمة على الاستثمار المكثف وفتح الأبواب أمام من يبحث عن «بديل» أقل تكلفة.
وفي النهاية، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل يغامر الخريج الهندي الشاب بالانتقال إلى مدينة صينية لا يتحدث لغتها؟ هل يختار العالم الأمريكي البقاء في مختبره الذي يواجه نقص التمويل، أم يستجيب لإغراءات مختبر مجهز في شنغهاي؟ وما الذي يعنيه هذا السباق بالنسبة لمستقبل التكنولوجيا العالمي؟