هل يمكن لشركة واحدة أن تعيد رسم خريطة التكنولوجيا العالمية عبر الشراء لا الابتكار؟ وهل الاستحواذ المستمر علامة على القوة أم على القلق؟
في قصة مايكروسوفت، تبدو الإجابة أكثر تعقيدًا مما توحي به واجهة «الويندوز». فالشركة التي تأسست على فكرة نظام تشغيل بسيط تحوّلت تدريجيًا إلى كيان عملاق، لا يكتفي ببرمجة المستقبل، بل يشتريه قطعةً قطعة.
منذ العام 1986، أبرمت مايكروسوفت ما لا يقل عن 277 صفقة استحواذ، شملت شركات من أميركا وكندا وبريطانيا وحتى الكيان الإسرائيلي. لم تكن هذه المشتريات مجرد توسع عرضي، بل استراتيجية متكاملة لاختراق كل مجال جديد، من البريد الإلكتروني وحتى الذكاء الاصطناعي.
ففي عام 1997، استحوذت مايكروسوفت على «هوتمايل»، لتصبح من أوائل اللاعبين الكبار في سوق البريد الإلكتروني المجاني، بينما شكّل شراء «موجانج» عام 2014 (مبتكرة «ماينكرافت») خطوة ذكية لاجتذاب الأجيال الجديدة. أما صفقة «GitHub» في 2018، فكانت رسالة واضحة: إن مستقبل البرمجة سيكون على خوادم مايكروسوفت.
كيف تحوّلت مايكروسوفت من البرمجيات إلى الكوكب؟
في تسعينيات القرن الماضي، انحصرت معظم استحواذات مايكروسوفت في قطاع البرمجيات التشغيلية والمكتبية، مثل «Fox Software» و«Forethought» (الشركة المطورة لباوربوينت).
لكنها سرعان ما غيّرت قواعد اللعبة مطلع الألفية، إذ اتجهت نحو البرمجيات المؤسسية (مثل «Visio» و«Great Plains») والألعاب (مثل «Bungie» و«Ensemble Studios»).
ذلك التحول لم يكن عبثيًا؛ فقد أدركت الشركة أن أنظمة التشغيل وحدها لن تكفي للبقاء في الصدارة. فتحوّلت إلى بناء منظومة كاملة، لا تبيع برامج فقط، بل تتحكم في بيئة العمل والترفيه والتعليم.
بعيدًا عن بريق النجاحات، وقعت مايكروسوفت في فخ الطموح المفرط أكثر من مرة. أبرز هذه العثرات كان الاستحواذ على قطاع الهواتف من «نوكيا» عام 2014 مقابل 7.2 مليار دولار. كانت الفكرة طموحة: خلق بيئة مغلقة تجمع بين الهاردوير والويندوز موبايل، لكن النتيجة كانت كارثية.
بعد عام فقط، شطبت الشركة القيمة الكاملة للصفقة تقريبًا، وأعلنت موت «ويندوز فون».
بل حتى قبل ذلك، في 2008، اشترت مايكروسوفت شركة «Danger Inc.» مطورة أجهزة «Sidekick»… والنتيجة؟ جهاز «Kin» الذي سُحب من الأسواق بعد 48 يومًا فقط.
خلال السنوات الأخيرة، بدا أن مايكروسوفت تسابق الزمن للدخول بقوة في مجال الذكاء الاصطناعي. في 2021، اشترت شركة «Nuance Communications» المتخصصة في الذكاء الاصطناعي الطبي. أما في 2024، فخطت خطوة أكثر إثارة للجدل عندما أجرت ما يشبه «الاستحواذ غير الرسمي» على شركة «Inflection AI»، من خلال توظيف كبار مطوريها لقيادة مشروع «Copilot» الذكي.
هنا، لا تشتري مايكروسوفت منتجات فقط، بل عقولًا وأفكارًا، وتراهن على أن الذكاء الاصطناعي سيكون الحلبة القادمة للهيمنة التكنولوجية.
بحسب تحليل قاعدة بيانات الاستحواذات، فإن 192 من الشركات التي اشترتها مايكروسوفت كانت أميركية، و20 كندية، و14 إسرائيلية، و13 بريطانية، والباقي من أوروبا وآسيا.
أما وتيرة الاستحواذ، فقد تسارعت بشكل لافت بعد العام 2000، بمتوسط 10 صفقات سنويًا في العقد الأول من الألفية الجديدة. ويُلاحظ أن أكثر القطاعات المستهدفة كانت البرمجيات، ثم ألعاب الفيديو، ثم خدمات الإنترنت والبنية التحتية السحابية.
الملفت أن استراتيجية مايكروسوفت لم تكن فقط التوسع الأفقي، بل إعادة تشكيل طبيعة التكنولوجيا نفسها. فبدلًا من انتظار المستقبل، تسعى الشركة إلى امتلاكه، سواء بشراء الأنظمة أو بتوظيف العقول. لكن هل يكفي المال لشراء الريادة؟
هذا هو الرهان الحقيقي: أن تظل مايكروسوفت قادرة على استيعاب ما تشتريه وتحويله إلى قيمة. فبين كل صفقة ناجحة، تكمُن صفقة أخرى مهملة أو خاسرة.