هل يمكن لمكعب صغير بحجم حبّة سكر أن يُولد طاقة تعادل طنًا من الفحم؟ قد تبدو الإجابة ضربًا من الخيال العلمي، لكن في قلب صناعة الطاقة النووية، هذا هو الواقع.
يُعرف هذا المكعب باسم «الحبيبة النووية (Fuel Pellet)»، وهو خلاصة سلسلة معقدة من العمليات تبدأ من أعماق الأرض وتنتهي داخل مفاعل نووي، حيث يولّد الكهرباء لعقود، دون أن ينبعث منه سوى القليل من الكربون.وفي عالم يبحث بيأس عن بدائل نظيفة للفحم والنفط، يبرز اليورانيوم كلاعب أساسي، لكن الرحلة التي يخوضها هذا العنصر الكثيف، قبل أن يصبح وقودًا، تستحق أن تُروى بتأنٍ وتحليل.
رغم أن اليورانيوم موجود بكميات ضئيلة في معظم الصخور وحتى في مياه البحر، فإن استخراجه بكفاءة اقتصادية يتركّز في حفنة من الدول. إذ تُنتج كازاخستان وكندا وأستراليا وناميبيا والنيجر وروسيا أكثر من 85% من الإمدادات العالمية. ويأتي هذا بعد عقود من الاعتماد على المناجم التقليدية المفتوحة أو تحت الأرض، التي كانت تتطلب عمليات سحق وطحن وصهر مكثفة.
لكن في سياق متصل، شهدت العقود الأخيرة تطورًا جذريًا في تقنيات التعدين، أبرزها «الاستخلاص في الموقع» (In-Situ Leaching). في هذه التقنية، لا يُحفر المنجم فعليًا، بل تُحقن الأرض بمحلول مائي مضاف إليه مواد مؤكسدة تذيب اليورانيوم، ثم يُضخ السائل المشبع إلى السطح، حيث يُفصل منه اليورانيوم ويُجفف إلى مسحوق أصفر يُعرف باسم «الكعكة الصفراء» (Yellowcake).
لأن معظم المفاعلات لا تكتفي بتركيبة اليورانيوم كما هي في الطبيعة. فالعنصر النشط فعليًا في التفاعل النووي، وهو اليورانيوم-235، لا يشكّل سوى 0.7% من اليورانيوم الخام. لذا، لا بد من تخصيبه ليصل تركيزه إلى 3%-5%، وهي النسبة المطلوبة في المفاعلات الأكثر شيوعًا.
وتبدأ رحلة التخصيب بتحويل «الكعكة الصفراء» إلى غاز يسمّى «سداسي فلوريد اليورانيوم»، الذي يُدخل في آلاف الأنابيب الدوّارة داخل أجهزة الطرد المركزي. هذه الأجهزة تفصل نظير U-235 الأخف وزنًا عن U-238 الأثقل، مما يُنتج تيارين: واحد غني بالعنصر المطلوب، وآخر منخفض التركيز يُعرف بـ«اليورانيوم المنضب».
كيف يُصنّع الوقود النووي؟
بمجرد إتمام التخصيب، يُنقل اليورانيوم إلى مصنع تصنيع الوقود، حيث يُحوّل إلى مسحوق أكسيد اليورانيوم، ثم يُضغط على شكل حبيبات صغيرة يتم تسخينها لتكوين مادة خزفية صلبة. تُدخل هذه الحبيبات داخل أنابيب معدنية طويلة تُعرف باسم «قضبان الوقود»، وتُجمع بدورها في وحدات أكبر تُسمى «تجميعات الوقود»، التي تُثبّت داخل قلب المفاعل.
وبحسب بيانات موثوقة من شركة «فراماتوم» الفرنسية، فإن مفاعلًا نوويًا بقدرة 1000 ميجاواط (MWe) يستهلك سنويًا نحو 27 طنًا من اليورانيوم، أي ما يعادل 18 مليون حبيبة وقود موزعة على أكثر من 50 ألف قضيب. بالمقارنة، يحتاج مصنع فحم بنفس القدرة إلى 2.5 مليون طن من الفحم سنويًا.
قد تبدو هذه المعادلة مُغرية في عصر تتصاعد فيه الحاجة إلى بدائل خضراء. فالحبيبة النووية الصغيرة تولّد طاقة تعادل أضعاف ما يولده الفحم، دون أن تُنتج ثاني أكسيد الكربون. لكن خلف هذه الفعالية، توجد تحديات ضخمة تتعلق بالأمان، وإدارة النفايات النووية، وتكاليف الإنشاء والصيانة، فضلًا عن المخاوف السياسية والاستراتيجية من انتشار المواد الانشطارية.
رغم ذلك، تواصل دول كثيرة الاستثمار في تطوير تكنولوجيا المفاعلات الصغيرة والنظيفة، في محاولة لتجاوز هذه العقبات، وتحقيق التوازن بين الكفاءة البيئية والأمن الصناعي.