في عالم تهيمن عليه معادلات الكربون وأسئلة الطاقة النظيفة، تبدو القدرة التي تمتلكها قطعة صغيرة بحجم مكعب سكر، على توليد نفس قدر الطاقة الذي تنتجه شاحنة ممتلئة بالفحم مفارقة صارخة، فكيف يمكن لحجر أصفر مستخرج من قاع الأرض أن يصبح قلبًا نابضًا لمفاعل نووي، يضيء مدنًا بأكملها ويقلل انبعاثات الكوكب؟
هذا ما تدور حوله رحلة اليورانيوم، من التعدين إلى أن يصبح وقودًا نوويًا.
يأتي الاهتمام العالمي باليورانيوم في سياق تسارع البحث عن مصادر طاقة منخفضة الانبعاثات، وسط مخاوف متزايدة من التغير المناخي واعتماد مفرط على الوقود الأحفوري.
ويمتاز اليورانيوم بتركيب ذري خاص، حيث يحتوي على نظير نادر يُعرف بـ«اليورانيوم-235»، وهو القادر على الانشطار النووي. لكن المفارقة أن هذا النظير لا يمثل سوى 0.7% من اليورانيوم الطبيعي، ما يفرض سلسلة معقدة من العمليات لتكثيفه وتحويله إلى وقود فعّال.
تبدأ القصة في أماكن نائية، مناجم مفتوحة في كازاخستان، وصحارى النيجر، وسهول أستراليا. هناك يُستخرج اليورانيوم من الصخور التي تحتوي على كميات ضئيلة منه.
في الماضي، اعتمدت هذه العملية على طرق تقليدية كالحفر العميق والتكسير والطحن، لكنها كانت تتسبب في أضرار بيئية جسيمة، لكن تعتمد، اليوم، نصف مناجم العالم تقريبًا على تقنية تُعرف بـ«الاستخلاص الموضعي»، حيث تُحقن المياه المؤكسجة في التربة لتذيب اليورانيوم دون الحاجة إلى استخراج الصخور.
ووفق ما توضحه بيانات من شركة «Kazatomprom» الكازاخية، فإن هذه الطريقة تقلل التكاليف وتحدّ من التأثير البيئي.
بعد الاستخلاص، يُصفّى المحلول ويُجفف ليأخذ شكل مسحوق يُعرف بـ«الكعكة الصفراء» أو «Yellowcake»، وهي المرحلة الأولى نحو الوقود النووي.
الخطوة التالية هي الأكثر تعقيدًا، والأكثر حساسية سياسيًا وتقنيًا: التخصيب. إذ لا يمكن استخدام «الكعكة الصفراء» مباشرة في المفاعلات، حيث تُحول أولًا إلى غاز يُعرف بـ«سداسي فلوريد اليورانيوم»، ثم يُضخ هذا الغاز في سلسلة من أجهزة الطرد المركزي ذات الأنابيب الرفيعة التي تدور بسرعات هائلة.
الهدف من هذه العملية زيادة تركيز «اليورانيوم-235» من نسبته الطبيعية (0.7%) إلى ما بين 3% و5%، وهي النسبة المطلوبة لمعظم المفاعلات. وفي هذه النقطة، ينقسم اليورانيوم إلى قسمين: وقود صالح، و«يورانيوم منضب» يُستخدم أحيانًا في الصناعات العسكرية أو يُخزن.
بعد التخصيب، يُعاد تحويل اليورانيوم إلى مسحوق من «أكسيد اليورانيوم»، ويُضغط هذا المسحوق وتحميصه في درجات حرارة عالية حتى يصبح على شكل حبيبات خزفية صغيرة، تُعرف بـ«الوقود النووي».
تُحمى هذه الحبيبات داخل قضبان معدنية رفيعة، تُجمع بدورها في حزم كبيرة تُسمى «تجميعات الوقود». تتراوح عدد القضبان في كل حزمة من 90 إلى أكثر من 200، بحسب نوع المفاعل.
ووفق بيانات من شركة «Framatome»، فإن حزمة واحدة من هذه يمكن أن تبقى داخل قلب المفاعل لعدة سنوات، مولدة كميات هائلة من الكهرباء النظيفة. مفاعل نووي متوسط بقدرة 1000 ميغاواط، على سبيل المثال، يستهلك سنويًا نحو 18 مليون حبيبة وقود نووي فقط. أما محطة فحم بنفس القدرة، فتحتاج إلى 2.5 مليون طن فحم سنويًا.
رغم الكفاءة العالية لهذا الوقود، يظل الجدل قائمًا حول أمانه، وتبعات النفايات المشعة، واحتمالات سوء استخدامه في تصنيع أسلحة. لذلك، تُراقَب مراحل تخصيب اليورانيوم بدقة دولية، وتخضع لمعايير صارمة من وكالات كـ«الوكالة الدولية للطاقة الذرية».
ومع ذلك، فإن عددًا متزايدًا من الدول يعود اليوم إلى الطاقة النووية كخيار ضروري للانتقال الطاقي، خصوصًا في ظل ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري وعدم استقرار مصادر الطاقة المتجددة.