تعد قصة تطور المسيرات عبر التاريخ رحلة مذهلة بدأت في سماء مدينة البندقية عام 1849؛ حينها لم يكن صوت المحركات هو ما يثير الرعب، بل صمت بالونات هوائية كانت تحمل الموت بين طياتها.
واليوم، لم يعد الطيران بدون طيار مجرد تجربة نمساوية فاشلة بسبب تقلب الرياح، بل تحول إلى عصب الحروب الحديثة وأداة لا غنى عنها في حقيبة كل مصور فوتوغرافي، ليعيد تعريف مفهوم السيادة الجوية في القرن الحادي والعشرين.
الجذور التاريخية لرحلة تطور المسيرات
لم تكن الحاجة إلى هذا الابتكار نابعة من ترف تقني، بل من رغبة عسكرية قديمة في ضرب العدو دون تعريض حياة الجنود للخطر.
تعود البداية المنسية إلى عام 1849، حين حاصرت القوات النمساوية مدينة البندقية الإيطالية، ولأن التضاريس كانت صعبة، فكر الملازم النمساوي "فرانز فون أوكاتيوس" في استخدام بالونات مملوءة بالهيدروجين تحمل قنابل موقوتة.
كانت الخطة تعتمد كليًا على اتجاه الرياح لتسقط القنابل فوق المدينة، ورغم أن التجربة فشلت تقنيًا بسبب تغير اتجاه الريح الذي أعاد المتفجرات نحو المعسكرات النمساوية، إلا أنها وضعت حجر الأساس لمفهوم "الهجوم الجوي غير المأهول".
مع مطلع القرن العشرين، وتحديدًا خلال الحرب العالمية الأولى، تسابقت القوى العظمى لتحويل هذا الحلم البدائي إلى آلات ميكانيكية.
برز في هذا السياق مشروع "Kettering Bug" الأمريكي عام 1917، والذي أشرف عليه المخترع تشارلز كيترينج بدعم من أورفيل رايت.
كان "البق" عبارة عن طائرة صغيرة غير مأهولة مصنوعة من الورق المقوى والخشب، مبرمجة لتقطع مسافة معينة ثم تنفصل أجنحتها لتسقط كقنبلة على الهدف.
كان هذا المشروع أول محاولة جادة لصناعة ما نعرفه اليوم بالصواريخ الجوالة، ويمثل محطة مفصلية في مسار تطور المسيرات المبكر، حيث أثبت أن الآلة يمكنها الطيران ذاتياً دون تدخل بشري لحظي.
الحرب العالمية الثانية ولحظة تطور المسيرات التشغيلية
خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، لم تعد المسيرات مجرد تجارب انتحارية، بل ظهرت حاجة ماسة لتدريب الطيارين والمدافعين الأرضيين على مواجهة أهداف متحركة وسريعة.
ظهرت طائرة "Radioplane OQ-2"، وهي طائرة يتم التحكم بها عن بعد عبر موجات الراديو، والمثير في هذه الحقبة هو أن المصانع التي كانت تنتج هذه المسيرات كانت تضم عاملة شابة تدعى "نورما جين"، والتي اكتشفها مصور عسكري وأصبحت لاحقًا الأسطورة "مارلين مونرو".
كان هذا التحول نحو "التحكم عن بعد" عبر الراديو قفزة نوعية في تاريخ التكنولوجيا، حيث انتقلت التقنية من الطيران المبرمج مسبقًا إلى الطيران التفاعلي الذي يمكن تعديل مساره أثناء الجو.
في الجانب الألماني، كانت صواريخ V-1 (القنبلة الطائرة) تمثل شكلًا آخر من أشكال المسيرات البدائية، حيث كانت تُطلق نحو لندن بأعداد كبيرة لترهيب المدنيين.
ورغم أنها لم تكن "مسيرة" بالمعنى الحديث لعدم وجود إمكانية للاستطلاع والعودة، إلا أنها عززت القناعة العالمية بأن المستقبل ينتمي للآلات التي تطير بلا طيار.
حقبة الحرب الباردة والتجسس من فوق السحاب
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، دخلت التقنية مرحلة "العيون في السماء"، فخلال حرب فيتنام، استخدمت الولايات المتحدة مسيرات استطلاع مثل "Ryan Firebee" للقيام بمهام خطرة فوق الأجواء الفيتنامية الشمالية، حيث كانت الدفاعات الجوية كثيفة جدًا على الطائرات المأهولة.
كانت هذه المسيرات تُطلق من طائرات أم، وتقوم بالتصوير الفوتوغرافي ثم تعود ليتم التقاطها في الجو بواسطة مروحيات متخصصة، وهنا، لم تعد المسيرة مجرد قنبلة، بل أصبحت أداة استخباراتية عالية القيمة، وهو ما مهد الطريق لظهور تقنيات الرصد الحديثة.
أبراهام كاريم يطلق ثورة المسيرات
لا يمكن الحديث عن التاريخ الحديث لهذا القطاع دون التوقف عند المهندس "أبراهام كاريم"، في السبعينيات والثمانينيات، كان يُنظر إلى المسيرات على أنها طائرات ثقيلة، قصيرة المدى، وتفتقر للموثوقية.
قرر كاريم، المهاجر الذي عمل في كراجه الخاص بولاية كاليفورنيا، تغيير القواعد، وبفضل فهمه العميق للديناميكا الهوائية، ابتكر طائرة "Albatross" ثم "Amber".
كان السر في ابتكار كاريم يكمن في مفهوم "القدرة على البقاء"؛ فقد صمم طائرات خفيفة الوزن يمكنها البقاء في الجو لمدة تزيد عن 24 ساعة متواصلة.
هذا الابتكار كان النواة التي خرجت منها طائرة "Predator" (المفترس) الشهيرة، وبفضل كاريم، انتقل تطور المسيرات من مرحلة الطائرات التي تطير لساعة أو ساعتين، إلى مرحلة الرصد الدائم الذي لا يغفل عن الهدف، مما جعلها الأداة المفضلة لوكالات الاستخبارات العالمية.
نقطة التحول الكبرى
حتى نهاية التسعينيات، كانت المسيرات تُعرف بأنها "كاميرا طائرة" تجمع المعلومات فقط، ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كانت المنعطف التاريخي الأكبر، إذ لم يعد الرصد كافيًا؛ بل كان المطلوب هو القدرة على "الاستجابة الفورية".
وفي فبراير 2001، جرت أول تجربة ناجحة لتزويد طائرة "Predator" بصاروخ من طراز "Hellfire".
أعلن هذا الدمج بين الاستطلاع والقدرة القتالية ولادة عصر جديد في القتال الجوي، وفي عام 2002، نفذت وكالة الاستخبارات المركزية أول عملية اغتيال موجهة بالمسيرات في اليمن استهدفت قياديًا في تنظيم القاعدة.
غيرت هذه اللحظة وجه الحروب إلى الأبد؛ حيث أصبح بإمكان قوة عظمى تصفية أهدافها في قارات أخرى بواسطة ضباط يجلسون خلف شاشات الكمبيوتر في قواعد عسكرية بعيدة، مما أثار جدلًا أخلاقيًا وقانونيًا واسعًا حول "حرب الأزرار".
تطور المسيرات يخرج عن الإطار العسكري
بينما كان العالم يراقب الصراعات العسكرية، كانت هناك ثورة موازية تحدث في الأسواق الاستهلاكية، في عام 2006، أسس "فرانك وانغ" شركة DJI في مدينة شنتشن الصينية.
كانت رؤيته هي جعل الطيران متاحاً للجميع، فقبل "DJI"، كانت المسيرات الصغيرة صعبة التحكم وتتطلب مهارات عالية، لكن الشركة قدمت حلولًا متكاملة تشمل نظام التثبيت (Gimbal) ونظام تحديد المواقع (GPS).
أدت هذه الثورة إلى "ديمقراطية السماء"؛ حيث انتقلت التقنية من الثكنات العسكرية والوكالات الحكومية إلى أيدي المصورين، والمزارعين، والباحثين.
جعلت مسيرات مثل "Phantom" و"Mavic" من الممكن التقاط صور جوية سينمائية كانت في السابق تتطلب مروحيات وميزانيات ضخمة.
كما دخلت المسيرات في مجالات فحص خطوط الطاقة، ورسم الخرائط، وحتى توصيل المساعدات الطبية في المناطق النائية بأفريقيا.
صائد الدبابات تمثّل التطور الأكبر
في السنوات الأخيرة، وتحديدًا في صراع ناغورنو قره باغ عام 2020 ثم الحرب الأوكرانية الروسية، شهدنا ذروة جديدة في استخدام التقنية المسيرة.
برزت المسيرة التركية "بيرقدار TB2" كأيقونة في هذه الحروب، حيث استطاعت تدمير أرتال من الدبابات ومنظومات الدفاع الجوي المعقدة.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ظهور مسيرات FPV (منظور الشخص الأول) الانتحارية، فهذه الآلات التي لا تتجاوز تكلفتها بضع مئات من الدولارات، أصبحت قادرة على شل حركة جيوش نظامية تنفق المليارات.
يعرف هذا النوع بأنه "مدفعية الفقراء" التي أعادت توازن القوى في الميدان؛ حيث يمكن لجندي واحد يحمل حقيبة ظهر أن يدمر أغلى الآلات العسكرية.
ويثبت هذا المستوى من التطور أن الحجم والتكلفة لم يعودا المعيار الوحيد للقوة في الجو، وهو ما يعزز مكانة تطور المسيرات كعنصر حاسم في الصراعات الحديثة.
مستقبل المسيرات
عندما ننظر إلى آفاق المستقبل، نجد أن التقنية تتجه نحو أمرين، هما "الأسراب" و"الاستقلالية".
لا يتحدث الخبراء اليوم عن طائرة واحدة، بل عن "سرب" من مئات أو آلاف المسيرات الصغيرة التي تتواصل فيما بينها باستخدام الذكاء الاصطناعي لتنفيذ مهام معقدة ككتلة واحدة، تماماً كما تفعل أسراب الطيور.
ووفقًا للتوقعات ومسارات البحث العلمي الجاري العمل عليها، فإن المسيرات القادمة لن تحتاج إلى طيار بشري يوجهها عبر الراديو؛ بل ستكون قادرة على تحديد الأهداف، والمناورة، واتخاذ القرارات بشكل مستقل تمامًا.
ورغم الفوائد العظيمة في مجالات الإنقاذ والبحث العلمي، إلا أن تطور المسيرات يضع العالم أمام تحديات قانونية وأخلاقية غير مسبوقة حول "الروبوتات القاتلة".













