تعد دراسة السير الذاتية واللحظات الأخيرة لمن سقطوا من ضحايا الاغتيالات مدخلًا رئيسًا لفهم الكيفية التي تتقاطع بها الأقدار الشخصية مع التحولات الكبرى للأمم.
منذ اللحظة التي سقط فيها يوليوس قيصر غارقاً في دماء الخيانة داخل مجلس الشيوخ الروماني، وحتى عصرنا الحالي الذي تدار فيه التصفية عبر شاشات الأقمار الصناعية، ظل القتل السياسي أداة جراحية لانتزاع القادة من كراسيهم وتغيير بوصلة التاريخ.
وتكشف الوقائع أن ضحايا الاغتيالات غالبًا ما يكونون حجر الزاوية في أنظمتهم، وبمجرد إزاحتهم بطلقة أو طعنة، تنفتح أبواب الديمقراطية أو تشتعل نيران الحروب، مما يجعل من حياة الزعيم رهانًا مستمرًا للصدفة التي قد يقررها مسار رصاصة أو عطل فني في عبوة ناسفة.
طعنات الجمهورية وخناجر الحشاشين في العصور القديمة
تبدأ فصول الحكاية في "أيديس مارس" عام 44 قبل الميلاد، حيث سقط يوليوس قيصر كأشهر ضحايا الاغتيالات في التاريخ القديم.
كان قيصر يظن نفسه آمنًا بين أصدقائه في مجلس الشيوخ، لكنه وجد نفسه محاصرًا بـ 23 طعنة وجهها له رفاقه، وعلى رأسهم بروتوس، في محاولة يائسة لإنقاذ الجمهورية من طموحاته الإمبراطورية.
لم تكن تلك الطعنات مجرد فعل جنائي، بل كانت إعلانًا سياسيًا بأن المؤسسة يمكن أن تفتك بالفرد إذا ما تضخمت سلطته، وهي الواقعة التي ظلت رمزًا للغدر والوفاء السياسي في آن واحد.
وبعد قرون، تكرر المشهد في فجر الدولة الإسلامية مع اغتيال الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب عام 644 ميلاديًا، الذي سقط بخنجر مسموم أثناء صلاته، مما أدى لخلخلة مرحلة الاستقرار المبكر للدولة.
ومع وصولنا للعصور الوسطى، ظهرت طائفة "الحشاشين" التي أدخلت مفهومًا جديدًا للاغتيالات يعتمد على الرعب النفسي والتسلل الهادئ.
وكان نظام الملك، وزير السلاجقة القوي، أول من دفع ثمن هذا التطور عام 1092، حينما طعنه فدائي متخفٍ في زي صوفي، ليرسي بذلك حقبة جديدة يكون فيها "الفدائي" مستعدًا للموت مقابل القضاء على هدفه، وهي العقيدة العسكرية التي أرعبت الممالك الفاطمية والعباسية والصليبية على حد سواء.
أشهر ضحايا الاغتيالات في العصر الحديث
تنتقل الدراما التاريخية إلى العصر الحديث، حيث أصبحت الرصاصة هي الأداة الأكثر فتكًا في سجل ضحايا الاغتيالات.
في 14 أبريل 1865، كان أبراهام لينكولن يشاهد عرضًا مسرحيًا في واشنطن حينما أطلق عليه "جون بوث" رصاصة من مسافة صفر، لينهي حياة الرجل الذي قاد أمريكا خلال حربها الأهلية وحرر العبيد.
أثبتت هذه الحادثة أن الأنظمة الديمقراطية قد تفقد قادتها بطلقة واحدة، لكن مؤسساتها تظل صامدة، وهو ما يختلف جذريًا عن الأنظمة الأوتوقراطية.
وفي 28 يونيو 1914، شهدت مدينة سراييفو الصدفة التي غيرت القرن العشرين؛ حيث استغل الطالب جافريلو برينسيب ضلال سيارة الأرشيدوق فرانس فرديناند طريقها ليطلق رصاصتين أودتا بحياة ولي عهد النمسا.
كانت هذه الرصاصة التي وضعت فرديناند ضمن ضحايا الاغتيالات هي الفتيل الذي فجر الحرب العالمية الأولى، مما يثبت أن "عنصر الصدفة" في نجاح العملية قد يجر العالم بأسره إلى هاوية الدمار.
وبالانتقال إلى عام 1963، نجد لغز جون كينيدي في دالاس، حيث أدت رصاصات لي هارفي أوزوالد إلى صدمة عالمية لا تزال مثارًا لنظريات المؤامرة، مما يؤكد أن قيمة الزعيم الرمزية تجعل من موقعه هدفًا مستمرًا لمن يبحثون عن المجد عبر القتل.
دماء فوق خرائط تغيير الشرق الأوسط
شهدت منطقة الشرق الأوسط واحدًا من أكثر مشاهد سقوط ضحايا الاغتيالات دراماتيكية في العصر الحديث، ففي 6 أكتوبر 1981، وبينما كان الرئيس المصري أنور السادات يحتفل بانتصار أكتوبر، ترجل خالد الإسلامبولي من شاحنته العسكرية ليطلق الرصاص على المنصة الرئيسية.
السادات، الذي كان يلقب بـ "بطل الحرب والسلام"، سقط وسط قواته وفي ذروة احتفاله، ليدفع ثمن سياساته وأيديولوجيته التي اصطدمت مع الجماعات الراديكالية.
ينظر المؤرخون السياسيون إلى هذه الواقعة كأكثر من تصفية لشخص، بل كانت محاولة لنسف مسار سياسي كامل للدولة المصرية في ذلك الوقت.
ولم يكن إسحق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، بعيدًا عن هذا المصير؛ ففي 4 نوفمبر 1995، سقط رابين برصاصات ييغال أمير عقب مسيرة لدعم السلام في تل أبيب.
رابين، الذي وقع اتفاقيات أوسلو، وجد نفسه ضمن ضحايا الاغتيالات الذين قتلتهم "النيران الصديقة" من داخل نسيجهم القومي، حيث كان القاتل يهدف صراحة إلى تعطيل عملية السلام.
وتدعم الدراسات الحديثة فكرة أن نجاح مثل هذه العمليات في الأنظمة التي يقودها "أفراد" ذوو رؤية خاصة يؤدي بالفعل إلى تعطيل أو تغيير الاستراتيجيات الوطنية بشكل جذري، وهو ما حدث بالفعل في مسار السلام في المنطقة بعد رحيل رابين.
أشهر ضحايا الاغتيالات في عصر المسيرات
انتقلت قائمة ضحايا الاغتيالات في القرن الحادي والعشرين من المواجهة المباشرة إلى "الجراحة الاستراتيجية" التي تنفذ من خلف الشاشات، ففي عام 2004، دشنت إسرائيل عصرًا جديدًا عندما اغتالت الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، بصواريخ أطلقتها مروحية هجومية وهو على كرسيه المتحرك، لتؤكد أن التقنية قادرة على تجاوز كل التحصينات البشرية.
رفع هذا التطور التقني نسبة نجاح عمليات الاغتيال من 7% في حالات القنابل التقليدية إلى مستويات تقارب 100% في العمليات الموجهة بدقة.
ووصل هذا المنحنى إلى ذروته في 3 يناير 2020، حينما أصبح الجنرال الإيراني قاسم سليماني أحد أبرز ضحايا الاغتيالات بواسطة طائرة مسيرة أمريكية (MQ-9 Reaper) قرب مطار بغداد.
تلاشت المسافة بين القاتل والمقتول تمامًا، حيث أديرت العملية عبر القارات والذكاء الاصطناعي، وتلا ذلك اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده عبر رشاش آلي يتحكم به القمر الصناعي، مما يعني أن مفهوم "القتل السياسي" قد تجرد من طابعه الإنساني أو العاطفي ليصبح فعلًا برمجيًا باردًا، حيث لا يحتاج القاتل للتضحية بنفسه أو حتى التواجد في مسرح الجريمة، مما يفتح فصلاً مرعباً في مستقبل النزاعات الدولية.













