من قلب العاصمة الروسية، يتحرك رئيس الاستخبارات العسكرية السابق كمال حسن ورجل الأعمال رامي مخلوف في محاولة لإعادة بناء قواعد قوة موازية داخل سوريا، وفق ما كشفه تحقيق لوكالة "رويترز".
ويوجه الرجلان، اللذان كانا من أقرب الدائرة المحيطة ببشار الأسد قبل سقوط حكمه، أموالًا ضخمة لتشكيل مجموعات مسلّحة تتنافس فيما بينها على النفوذ داخل مناطق الساحل ذات الأغلبية العلوية، إضافة إلى محاولات للسيطرة على شبكة من غرف قيادة مخفية أُنشئت في الأشهر الأخيرة من حكم النظام السابق.
تحويل الأموال لبناء انتفاضات محتملة
يفيد التحقيق بأن موالين سابقين غادروا سوريا بعد انهيار النظام يحوّلون مبالغ كبيرة لتمويل ما يُرجَّح أن يكون نواة انتفاضات جديدة تستهدف القيادة السورية الحالية، في محاولة لاستعادة مكانتهم السابقة. وبحسب أربعة مصادر مطلعة من محيط العائلة، فإن بشار الأسد المقيم في روسيا منذ ديسمبر الماضي يعيش عزلة شبه كاملة، بينما يرفض مقربون منه، بينهم شقيقه ماهر، قبول واقع خروج العائلة من السلطة.
وتشير المعلومات التي جمعتها رويترز إلى أن حسن ومخلوف يعملان على إنشاء تشكيلات مسلحة داخل الساحل السوري وفي لبنان، معتمدين على شبكات متبقية من أبناء الطائفة العلوية. وقدرت مصادر مشاركة في هذه التحركات أن مجموع القوى الممولة من الرجلين وفصائل أخرى تصل إلى ما يتجاوز 50 ألف مقاتل، في وقت يمتنع ماهر الأسد، الموجود أيضًا في موسكو، عن إصدار أي تعليمات أو تقديم تمويل رغم احتفاظه بنفوذ لدى آلاف المقاتلين السابقين.
وتتمحور إحدى أهم نقاط الصراع بين حسن ومخلوف حول شبكة تضم 14 غرفة قيادة محصنة تحتوي على أسلحة ومعدات اتصال وبُنيت قرب سقوط النظام. وأكد ضابطان ومحافظ سوري سابق وجود هذه المنشآت، التي ظهرت تفاصيلها في صور راجعتها رويترز. ويواصل حسن، الذي كان يشرف على الاستخبارات العسكرية في عهد الأسد، إرسال رسائل صوتية واتصالات غاضبة إلى قادته السابقين، يتحدث فيها عن رؤيته للسيطرة على الساحل وإعادة تشكيل النفوذ العلوي هناك.
أما مخلوف، الذي كان يدير أكبر شبكة اقتصادية داعمة للنظام السابق قبل أن يدخل في صدام مع العائلة الحاكمة ويُوضع تحت الإقامة الجبرية، فيقدّم نفسه عبر خطاباته باعتباره صاحب دور "مقدّر" سيقوده إلى استعادة الموقع الذي فقده.
ردود الحكومة السورية
كلا الرجلين تجاهلا طلبات التعليق على المعلومات، كما لم تتمكن رويترز من الحصول على رد من بشار أو ماهر الأسد، رغم محاولات تمت عبر وسطاء. وتوضح مصادر مطلعة أن الرجلين يديران نشاطهما عبر مساعدين يتوزعون في روسيا ولبنان والإمارات، بينما تعمل الحكومة السورية الحالية على مواجهة هذه التحركات. وقد استعانت بشخصية علوية بارزة كانت قريبة من الأسد سابقًا، وهو خالد الأحمد، الذي يوكل إليه إقناع أبناء الطائفة بأن المستقبل يرتبط بترتيبات الحكم الجديدة داخل البلاد.
وتقول الباحثة أنصار شحود، التي درست بنية النظام السابق لسنوات، إن الصراع الجاري يمثل استمرارًا لمعركة السلطة داخل المنظومة القديمة، لكن بغياب الأسد نفسه، حيث بات التنافس على قيادة الطائفة وعلى وراثة النفوذ داخلها. ويستند التحقيق إلى مقابلات مع 48 شخصًا على صلة مباشرة بهذه التحركات، بالإضافة إلى وثائق مالية ورسائل نصية وصوتية. ويؤكد محافظ طرطوس السابق، أحمد الشامي، أن السلطات السورية تراقب التحركات وتعتبر أن قدرات المتآمرين ضعيفة، رغم إقرارها بوجود غرف القيادة.
وفي الوقت الذي تلتزم فيه جهات رسمية في لبنان وروسيا الصمت، قال مسؤول إماراتي إن بلاده تمنع استخدام أراضيها لأي تدفقات مالية غير قانونية.
وتشير التقديرات إلى أن أي محاولة لإطلاق انتفاضة جديدة قد تهدد استقرار الحكومة السورية الحالية، التي تحظى بدعم دولي وإقليمي، خصوصًا بعد عام من الصراع الداخلي الذي أعقب سقوط النظام السابق. لكن احتمالات نجاح مثل هذه التحركات تبدو محدودة في ظل انقسامات حادة بين مخلوف وحسن، وتراجع الدعم الروسي، وتنامي الريبة لدى أبناء الطائفة تجاه الشخصيتين.
تقديرات القوى وعدد المقاتلين
في بيان مقتضب، قال ممثل الحكومة خالد الأحمد إن معالجة آثار السنوات الماضية وإزالة الاحتقان الطائفي هي الطريق الوحيد لعودة سوريا إلى الاستقرار. وتكشف وثائق داخلية أن حسن يزعم امتلاكه قوة مكونة من 12 ألف مقاتل، بينما تشير وثائق مرتبطة بمخلوف إلى قوته التي يدّعي أنها تضم أكثر من 54 ألفًا. ومع ذلك، لم يظهر دليل واضح على نشر هذه القوات فعليًا، فيما يؤكد محافظ طرطوس أن الأعداد المتداولة تشير فقط إلى إمكانية تجنيد عشرات الآلاف.
ويقول مقربون من المخططين إن العلويين قد يواجهون انتقامًا واسعًا إذا حاولت هذه المجموعات تحدي السلطة الجديدة، بعد سنوات من الحرب التي خلّفت انقسامًا عميقًا. وقد شهد الساحل السوري في مارس الماضي مقتل نحو 1500 مدني خلال حملة أمنية أعقبت محاولة تمرد فاشلة. وتفاقم التوتر أكثر في أواخر نوفمبر، عندما خرجت احتجاجات واسعة في حمص ومناطق الساحل مطالبة بالإفراج عن معتقلين وتحسين الأوضاع الأمنية وعودة المختطفين. ورغم أن رجل دين مخالف لمخلوف وحسن قاد الدعوات للتظاهر، فقد هاجمه مخلوف لاحقًا واعتبر التحرك "غير مناسب" في توقيته.
ويقول أحد كبار منسقي حسن إن اللجوء إلى السلاح هو الطريق الوحيد، معتبرًا أن المجتمع العلوي مطالب بتقديم "ثمن كبير" للحفاظ على وجوده.
وبحسب وثائق اطلعت عليها رويترز، حاولت مجموعات مرتبطة بالنظام السابق مطلع 2025 تشكيل قوة شبه عسكرية قوامها 5,780 مقاتل اعتمادًا على غرف القيادة المخفية، التي تتضمن أسلحة ومعدات اتصال وطاقة شمسية وأنظمة تحديد مواقع. لكن هذا المشروع توقف، فيما ظلت الغرف موجودة لكنها شبه معطلة داخل امتداد ساحلي يبلغ 180 كيلومترًا.
وقد أظهرت صور إحدى الغرف تجهيزات تضم صناديق تحتوي على بنادق وذخائر وقنابل، إضافة إلى أجهزة اتصال وحواسيب وخريطة كبيرة موضوعة على طاولة وسط الغرفة. ويصف أحد القادة هذه الشبكة بأنها "كنز يسعى الجميع للوصول إليه"، بينما يؤكد محافظ طرطوس أنها فقدت فعاليتها.
تجنيد المقاتلين بعد سقوط النظام
بعد انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024، لجأ العديد من القادة العسكريين المتوسطين إلى مناطق الساحل، وبدؤوا بتجنيد عناصر سابقة، خصوصًا من أبناء الطائفة الذين كانوا في صفوف الجيش قبل حله. وقد مثّل الهجوم الفاشل الذي نفذته مجموعة علوية مستقلة في مارس نقطة تحول أعادت الموالين السابقين إلى تنظيم صفوفهم. وفي التاسع من مارس، بدأ مخلوف الظهور مجددًا بخطاب ديني يُظهره كمن يؤدي مهمة "مصيرية"، رغم أنه يقيم في موسكو. ويعيش اليوم الرجل الذي كان أبرز رجال الأعمال في سوريا قبل أن تُصادر مشاريعه، تحت حماية أمنية في أحد فنادق موسكو الفاخرة، بعد أن غادر لبنان عقب فراره من دمشق في ليلة سقوطها.
وتشير روايات أقاربه ومساعديه إلى أنه بات متدينًا بدرجة كبيرة خلال سنوات الإقامة الجبرية، وكتب خلالها سلسلة من المجلدات حول التراث الديني، بينما يروّج في رسائله لفكرة أن لديه دورًا مقدّرًا في تحولات كبرى. وتبرز وثائق مالية ورسائل بين مساعديه أنّه يرسل الأموال عبر ضباط عسكريين إلى وحدات منتشرة في حمص وحماة وطرطوس واللاذقية، مع تأكيدات من قادة محليين بأن رواتب المقاتلين ضئيلة جدًا، لا تتجاوز 20 إلى 30 دولارًا شهريًا.
وتشمل تحركات فريقه البحث عن مواقع مخازن أسلحة تركها النظام السابق، والتواصل مع مهربين لتأمين أسلحة جديدة، دون وضوح مدى نجاح هذه المساعي. ويقدّر قادة على الأرض أنهم مسؤولون عن نحو 12 ألف مقاتل في مراحل متفاوتة من الاستعداد.
وفي المقابل، يتحرك حسن ضمن مسار موازٍ، إذ استقر في فيلا قرب موسكو بعد فترة قضاها داخل السفارتين الإماراتية ثم الروسية، وكان خلالها غاضبًا من المعاملة. ويُظهر تسجيل صوتي له تذمره من ظروف إقامته المؤقتة، قائلًا إنه ليس ممن يجلسون "على كرسي خشبي لعدة أيام". ويكشف مهندسون سابقون أنه كوّن فريقًا من القراصنة الإلكترونيين لشن هجمات على الحكومة الحالية وبيع بيانات سرية على الإنترنت المظلم.
النفوذ العسكري لماهر الأسد
يُنظر إلى ماهر الأسد، شقيق الرئيس السابق، كرقم قد يقلب المعادلة إذا تحرك. إذ إن الرجل الذي كان يقود الفرقة الرابعة ويملك شبكة نفوذ واسعة، لا يزال يحظى بولاء آلاف المقاتلين، رغم عدم دخوله بشكل رسمي في أي تحرك ضد الحكومة الحالية.
ويرى ضابط سابق في الفرقة أن ماهر يعتقد بأن إرث والده حافظ الأسد يعطيه أحقية استمرار النفوذ، لكنه لم يتخذ خطوة مباشرة بعد. وتؤكد مصادر أن مخلوف وحسن، رغم تحركاتهما المستمرة، لا يمتلكان الأرضية الكافية لإطلاق تمرد واسع، في ظل غياب دعم شعبي حقيقي وتزايد حالة التعب لدى المجتمع العلوي الذي شهد خسائر كبيرة خلال الحرب.
ورغم الضجيج الذي تثيره تحركات المنفيين، يبقى المشهد على الأرض غارقًا في عدم اليقين. فمحاولاتهم لم تثمر حتى الآن عن تشكيل قوة فاعلة، بينما تستمر الحكومة السورية الجديدة في تضييق الخناق عليهم داخل مناطق الساحل، في ظل تدخلات إقليمية ودولية لا يبدو أنها ستسمح بقيام تمرد واسع النطاق. وفي تقييم نهائي للمشهد، تقول مصادر سياسية إن أي مغامرة جديدة قد تعيد البلاد إلى دوامة عنف طائفي لا ترغب الأطراف الدولية في رؤيتها تتكرر، وإن مستقبل تحركات الرجلين يبقى رهن صراعات داخلية وضغوط خارجية، فيما لا تزال سوريا تعيش نتائج حرب طويلة تركت مجتمعها منهكًا ومنقسمًا حتى اللحظة.













