logo alelm
لماذا يظل طعم الدواء مرًّا؟

في كل من بيوت العالم، ثمة طفل مريض يرفض جرعة دواءه بوجه متقزّز، لكن خلف هذا التشنّج الصغير تكمن مفارقة كبرى، فكيف يمكن لمادة صُنعت لتشفي أن يكون طعمها أقرب إلى السم؟ وهل يُختصر الأمر في مجرّد مرارة على اللسان، أم أن خلفية تطورية وتاريخية هي التي صاغت هذه التجربة الحسية التي تُرهق المرضى وتحيّر العلماء؟

لم يأتِ مذاق الدواء السيئ من فراغ، فعبر ملايين السنين، لجأت النباتات والكائنات البحرية الثابتة مثل الإسفنج والشعاب المرجانية إلى ابتكار وسيلة دفاع وحيدة، هي إنتاج مركّبات كيميائية تُثني الحيوانات المفترسة عن الاقتراب. يشرح أوزاريو تالياسكافاتي، عالم الأحياء الصيدلانية بجامعة نابولي، قائلاً: «لا يمكنها الحركة، ولا الهرب، فابتكرت سلاحًا كيميائيًا يجعلها غير مرغوبة».

هذه المركّبات تسبّبت في طيف واسع من التأثيرات، من توقف القلب عبر «الديجيتاليس» في زهرة الثعلب، إلى الهلوسة بفعل «البلادونا»، وصولًا إلى السمّية المميتة لثمار الطقسوس. ومع الوقت، طوّرت الكائنات، بما في ذلك الإنسان، حواس تذوّق متخصّصة لاكتشاف هذه المواد والتحذير من خطرها. المرارة، ببساطة، كانت جرس الإنذار.

كيف تحوّل السم إلى علاج؟

حين دخل العلم الحديث المشهد، تغيّر كل شيء. لم يعد الإنسان يخاف المركبات النباتية كما في عصور الصيد، بل بدأ يستخلصها ويعيد صياغتها لتتحوّل من سموم دفاعية إلى أدوية منقذة.

البنسلين والمورفين أمثلة نادرة استُخدمت كما هي تقريبًا من الطبيعة. أما الغالبية العظمى من العقاقير فبُنيت على هيكل تلك المركبات مع تحسينات دقيقة في المختبر.

وكما أوضح تالياسكافاتي: «لكي يصبح المركّب دواءً فعّالًا، لا بد أن يتوافر فيه شرط الامتصاص والوصول إلى الهدف، بجانب النشاط الحيوي نفسه. لذلك قد نضطر إلى تعديل البنية الكيميائية». لكن هذا التعديل لا يلغي بالضرورة المذاق المرّ المتوارث، بل يبقيه حاضرًا في أشكال جديدة.

هل الحل في الطعم وحده؟

يظن كثيرون أن إضافة نكهة الفراولة إلى الشراب تكفي لتجاوز العقبة. لكن الدكتورة بهيجة ريـمي-إبراهيم، الصيدلانية بجامعة كينجز كوليدج لندن، ترى أن الأمر أعقد بكثير: «المسألة ليست طعمًا فحسب، بل قبولية شاملة تشمل الرائحة والملمس واللون وحتى الأثر اللاحق في الفم والمعدة».

لماذا يصعب إخفاء المرارة؟

حتى لو نجح الغلاف السكّري في خداع اللسان، فإن الجسم يملك مستقبلات تذوّق أخرى في المريء والمعدة. وهكذا يظهر الطعم المعدني أو المرّ من جديد بعد دقائق، هذه «الخيانة الحسية» تجعل مهمة شركات الأدوية معقدة، إذ إن تحسين عامل واحد غالبًا ما يفسد عاملًا آخر.

وتستثمر شركات الأدوية ملايين الدولارات سنويًا فيما يُسمى «علم القبولية»، الذي تتنوّع استراتيجياته بين التحلية، وتغليف الأقراص بطبقات عازلة، وتغيير البنية الكيميائية، وحتى تعديل الإحساس الفموي للدواء ليبدو أقل خشونة.

هل نتصالح مع الطعم؟

من منظور تطوري، الطعم المرّ تحذير من السم. من منظور طبي، هو أحيانًا دليل على فعالية الدواء. وبين هذين العالمين، يقف المريض حائرًا بين حاجته للشفاء ورغبته الفطرية في رفض ما يُذكّره بالخطر.

لعل هذه المفارقة هي ما يجعل مشهد الطفل المتقزّز أمام ملعقة الدواء أكثر عمقًا مما يبدو، إنه صدى لملايين السنين من صراع البقاء.

شارك هذا المنشور:

المقالة السابقة

إنفوجرافيك| أعلى معدلات الإصابة بالسرطان عالميًا

المقالة التالية

إنفوجرافيك| برنامج H-1B.. شريان حياة للتقنية