logo alelm
الذهب يواصل التحليق.. ما الذي يحدث؟

خلال الأسابيع الست الماضية، شهدت أسواق الذهب موجة صعود تاريخية قفزت بأسعاره نحو مستويات غير مسبوقة، إذ ارتفعت بنسبة تقترب من 16% لتبلغ 3,943 دولارًا للأونصة، مقتربة من حاجز الأربعة آلاف دولار الذي يشكّل علامة فارقة في مسيرته الطويلة. هذا الصعود اللافت لا يُعدّ مجرد موجة مؤقتة، بل هو انعكاس لمناخ عالمي مثقل بالقلق من التوترات الاقتصادية والسياسية. من تهديدات الإغلاق الحكومي الأمريكي، إلى تصاعد الأزمات الجيوسياسية، وصولًا إلى اندفاع البنوك المركزية لزيادة احتياطاتها من الذهب، يتجدد الإقبال على المعدن النفيس باعتباره الملاذ الأكثر أمانًا في عالم تتسارع فيه الاضطرابات.

وفقًا لبيانات منصة TradingView، فإن الزخم الصعودي للذهب واضح المعالم. فالبنوك المركزية حول العالم تواصل ضخّ مليارات الدولارات لشراء الذهب في محاولة لحماية أصولها من تقلبات الدولار الأمريكي ومخاطر التضخم. وللعام الثالث على التوالي، تجاوزت مشتريات تلك البنوك حاجز الألف طن من المعدن النفيس في عام 2024، أي ضعف ما تم شراؤه منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. كما أشار مجلس الذهب العالمي إلى ارتفاع أصول الصناديق الاستثمارية المدعومة بالذهب بنسبة 5% خلال أغسطس وحده، لتسجّل رقمًا قياسيًا بلغ 407 مليارات دولار.

ما الذي يدفع العالم نحو الذهب؟

تتلاقى عدة عوامل لتفسر هذا الاندفاع المتجدد نحو الذهب. أولها، حالة عدم الاستقرار السياسي والمالي في الولايات المتحدة مع تصاعد الديون الفيدرالية ومخاطر الإغلاق الحكومي، ما يُضعف الثقة في قوة الدولار. ثانيها، التوقعات المتزايدة بأن الاحتياطي الفيدرالي سيُقدم على خفض أسعار الفائدة مرتين خلال العام، مما يجعل الأصول الخالية من العائد – كالذهب – أكثر جاذبية نسبيًا. وثالثها، التحول التدريجي في النظام المالي العالمي نحو تقليص الاعتماد على العملة الأمريكية، وهو ما يرفع الطلب على الذهب المادي بوصفه بديلاً أكثر استقرارًا.

وفي الهند، التي تُعد أحد أكبر أسواق الذهب في العالم، شهد الطلب طفرة موسمية مع حلول موسم الأعياد، حيث تزامن الشعور العالمي بعدم اليقين مع تقاليد شراء الذهب كرمز للبركة والازدهار. فقد ارتفع سعر غرام الذهب عيار 24 قيراطًا إلى 12,077 روبية، بينما سجلت الأعيرة الأخرى زيادات متتالية، بحسب صحيفة إنديان إكسبريس. ورغم بعض التراجعات الطفيفة مؤخرًا، لا يزال الاتجاه العام صعوديًا على المدى الطويل، وسط إقبال كثيف من المستهلكين والمستثمرين الذين يرون في الذهب حصنًا يحميهم من تقلبات الأسعار والتضخم.

ولم يقتصر أثر هذا الازدهار في أسعار الذهب على المستثمرين الأفراد، بل امتد ليُعيد تشكيل خريطة قطاع التعدين العالمي. فبحسب تقديرات بنك UBS، قد تصل الأسعار إلى 4,500 دولار للأونصة، ما يعني قفزة إضافية بنحو 14% من المستويات الحالية، وارتفاعًا في تقييم بعض شركات التعدين بنسبة تصل إلى 150%. وتتصدر شركات مثل Northern Star وRegis Resources هذا المسار، إذ يُتوقع أن تحقق الأولى مكاسب مذهلة قد تتجاوز 140% إذا استمر الزخم الحالي.

لكن خلف هذه الأرقام البراقة تكمن تحديات لا يُستهان بها. فتكاليف الإنتاج والتوسع في مشاريع التعدين ترتفع بوتيرة سريعة، حيث تستعد بعض الشركات لضخ استثمارات رأسمالية ضخمة تتجاوز 3 مليارات دولار خلال العامين المقبلين قبل أن تبدأ بجني العوائد. ومع أن تدفقات النقد الحر تبدو قوية على الورق، إلا أن جزءًا كبيرًا منها يُعاد توجيهه لتوسيع العمليات وتحديث المعدات، مما قد يؤخر توزيع الأرباح على المساهمين.

إلى جانب ذلك، تبدو مضاعفات تقييم أسهم شركات الذهب في مستويات متضخمة، حيث تتعامل الأسواق مع الأسعار الحالية على أنها دائمة. أي تراجع مفاجئ في سعر الذهب قد يؤدي إلى تصحيحات قاسية في أسعار تلك الأسهم، كما هو الحال مع شركة Newmont، أكبر منتج للذهب عالميًا، التي تُتداول بأسعار تُفترض ضمنيًا استمرار الارتفاع إلى أجل غير مسمى.

الذهب في حياة الناس

لا تقتصر جاذبية الذهب على أسواق المال، فهو في نظر ملايين البشر رمزٌ للثروة والأمان والهوية الثقافية. في الهند والشرق الأوسط، لا تزال الحلي الذهبية تُشكل جزءًا أساسيًا من المهرجانات والمناسبات العائلية، في حين ينظر المستثمرون إليه كوسيلة للحفاظ على القوة الشرائية. وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار، لم يتراجع الطلب على الذهب، بل زاد الإقبال على اقتنائه قبل أي ارتفاعات جديدة محتملة.

ومع ذلك، تُحذّر التجارب السابقة من أن فترات الصعود المتسارع قد تعقبها تصحيحات عنيفة. فالمشترون الجدد قد يواجهون خسائر إذا دخلوا السوق في قمته، كما أن الرسوم الإضافية على المصنعية والضرائب تجعل من الاستثمار في المجوهرات الذهبية خيارًا أقل جدوى مالية مقارنة بشراء السبائك أو العملات.

الآفاق المستقبلية.. إلى أين يتجه الذهب؟

تتوقع مؤسسات مالية كبرى مثل غولدمان ساكس أن يتجاوز سعر الذهب حاجز 4,000 دولار بحلول منتصف عام 2026، وربما يقترب من 4,300 دولار في نهايته، مدفوعًا بمزيج من استمرار الطلب من البنوك المركزية، ومخاوف التضخم، وتصاعد التوترات السياسية العالمية. ومع ذلك، يبقى الحذر مطلوبًا، إذ يمكن لأي تحوّل مفاجئ في سياسات الفائدة أو استقرار الحكومات أن يعيد الذهب إلى مسارٍ هابط.

فهل ما نشهده اليوم فقاعة جديدة أم بداية “العصر الذهبي” الحقيقي؟ الإجابة تعتمد على مسار الاقتصاد العالمي في الأشهر المقبلة. وحتى الآن، لا تُظهر المؤشرات أي نية للتهدئة، بينما يظل الذهب هو النجم اللامع في سماء الأسواق المضطربة.

شارك هذا المنشور:

المقالة السابقة

لعنة الكرة الذهبية تترصّد “بيلينغهام”

المقالة التالية

إنفوجرافيك| بلدان تدفع فاتورة الإنترنت الأعلى