في تمام الثالثة فجرًا بتوقيت الرياض، وبينما تغفو معظم الأسواق حول العالم، تتوهج شاشات المتداولين في طوكيو ونيويورك ولندن، كأن العالم لم يُغلق متجره أبدًا.
هنا، لا يبيعون القطن أو النفط أو أسهم الشركات، إنهم يتاجرون بالمال ذاته: عملات تتحرك صعودًا وهبوطًا كل لحظة، مدفوعة بتقارير اقتصادية، وقرارات سياسية، وحتى زلازل قد تحدث على الطرف الآخر من الكوكب. هذا عالم الفوركس، السوق الذي لا يهدأ، الذي تجاوز حجم تداوله اليومي 7.5 تريليون دولار في أبريل 2022، بحسب بيانات بنك التسويات الدولية.
لكن ما الذي يجعل الناس من مختلف الجنسيات والأعمار يدخلون هذا السوق الذي يفقد فيه أغلب المبتدئين أموالهم؟ وهل هو فرصة للثراء أم لعبة محفوفة بالمخاطر لا يفوز بها إلا القلّة؟
العملات، كما نعرفها في حياتنا اليومية، ليست فقط وسيلة للدفع، بل سلعة تُباع وتُشترى. وفي تداول الفوركس، لا تشتري عملة فحسب، بل تبيع أخرى في الوقت نفسه. فالصفقات تتم دائمًا بين زوجين من العملات، مثل «اليورو/الدولار الأميركي»، فإذا اشتريت هذا الزوج، فأنت تشتري اليورو وتبيع الدولار. وإذا بعته، تفعل العكس.
تُقاس هذه التحركات بوحدة تسمى «النقطة» أو «بيب(pip)»، وهي جزء من مئة جزء من الواحد في المئة، أي 0.0001 في العادة. وبما أن العملات تتحرك بهذه الهوامش الدقيقة، فإن المتداولين يستخدمون وحدات كبيرة -تُعرف بـ«اللوت»- تبدأ من 1000 وحدة في «الميكرو لوت»، وتصل إلى 100 ألف في «اللوت القياسي».
يمتد عمل السوق طوال 24 ساعة يوميًا، من مساء الأحد حتى مساء الجمعة بتوقيت نيويورك، مقسمًا إلى ثلاث جلسات رئيسية: الآسيوية، والأوروبية، والأميركية. لكل جلسة طابعها وحجمها، وغالبًا ما يكون النشاط الأكبر في ساعات تداخلها. فمثلًا، حين تتقاطع الجلسة الأوروبية مع الأميركية، يكون التداول في ذروته، خاصة لأزواج العملات المرتبطة بالدولار الأميركي واليورو.
هذه الاستمرارية تعني أن السوق لا يغلق فعليًا، ما يمنح المتداولين مرونة لا تُضاهى، لكنها تفرض عليهم أيضًا يقظة دائمة، وقدرة على مراقبة الأخبار العالمية على مدار الساعة.
تعود جذور تجارة العملات إلى ما قبل الميلاد، لكن السوق الحديث انطلق فعليًا في عام 1973، عندما تُخُلِّي عن «نظام بريتون وودز» وربط العملات بالذهب، واعتمدت الدول نظام التعويم الحر. منذ ذلك الحين، بات سعر كل عملة يُحدده العرض والطلب في السوق، لا البنك المركزي وحده.
أما كلمة «فوركس» فهي اختصار لـ«Foreign Exchange»، أي تبادل العملات الأجنبية.
إذا كنت صاحب شركة تستورد البضائع من أوروبا، فإن ارتفاع الدولار يعني أنك تشتري بأسعار أرخص، والعكس صحيح.
أما إن كنت تبيع بضائعك للخارج، فإن ضعف الدولار يعني أن منتجاتك ستصبح أرخص للمشترين، ما قد يزيد مبيعاتك. لهذا، لا يهتم المتداولون فقط بالسعر، بل أيضًا بكيفية تأثير تغيراته على الاقتصاد العالمي.
في حين تضم بورصة نيويورك نحو 2800 سهم، يتعامل الفوركس فعليًا مع 18 زوج عملات رئيسيًا فقط، تشكل أكثر من 80% من حجم التداول العالمي. تدور هذه الأزواج كلها تقريبًا حول 8 عملات: الدولار الأميركي، اليورو، الجنيه الإسترليني، الين الياباني، الدولار الكندي، الدولار الأسترالي، الفرنك السويسري، والدولار النيوزيلندي.
هذه البساطة النسبية من حيث عدد «السلع» المتداولة تجعل الفوركس أكثر تركيزًا، كما أن سيولته الفائقة، بمعنى القدرة على الشراء والبيع بسرعة دون تغيّر كبير في السعر، تمنحه ميزة على الأسواق الأخرى، لكنه يجعل الخسائر أسرع إن لم تُدار بعناية.
تتحرك العملات بفعل مزيج من العوامل: بيانات اقتصادية، مثل معدلات البطالة والنمو والتضخم؛ قرارات البنوك المركزية بشأن الفائدة؛ التوترات السياسية؛ والكوارث الطبيعية.
فإذا رفع البنك المركزي الأميركي سعر الفائدة، مثلًا، يتجه المستثمرون إلى شراء الدولار، مما يرفع قيمته. وإذا اندلعت أزمة في منطقة اليورو، يفرّ المستثمرون من اليورو، ما يؤدي إلى انخفاضه.
هكذا تصبح العملات مرآة حساسة لعالم سريع التغيّر، حيث الكلمة التي تُقال في مؤتمر صحفي يمكن أن ترفع أو تخفض عملة كاملة في دقائق.
الحقيقة القاسية، بحسب تقارير الوسطاء العالميين، أن نحو 70% من المتداولين الأفراد يخسرون أموالهم خلال الأشهر الأولى. السبب؟ الافتقار إلى الخبرة، والإفراط في استخدام الرافعة المالية، وعدم فهم ديناميات السوق.
غير أن منصات التداول الحديثة بدأت تسهل دخول هذا العالم، من خلال الحسابات التجريبية التي تسمح بالتدريب بأموال وهمية، وأدوات إدارة المخاطر مثل وقف الخسارة. كما أن «الميكرو لوتات» تجعل الخسائر أقل إيلامًا للمبتدئين، إذ تساوي النقطة فيها حوالي 10 سنتات فقط.
قد تكون الإجابة في وهم السيطرة: المتداول يرى الأرقام تتحرك أمامه، يضغط على الزر، فيكسب أو يخسر فورًا. لكن ما يُغري أيضًا هو فكرة الربح السريع. في يوم واحد، يمكن لعملة أن تتحرك 100 نقطة أو أكثر، ما يفتح الباب لأرباح -أو خسائر- مضاعفة.
يقول البعض إن الفوركس يُشبه الشطرنج أكثر مما يُشبه القمار. الفوز فيه لا يعتمد على الحظ، بل على الانضباط، والقدرة على قراءة السوق، وتجنّب القرارات العاطفية. لكن كم من المتداولين يملكون هذه المهارات فعلًا؟