برزت دراسة نفسية أمريكية صدرت عام 2016م، عن شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى الأضواء مجدداً، بعد تنامي دوره المؤثر في مجريات روسيا والعالم، خلال السنوات القليلة الماضية، ووصولا إلى الحرب الأوكرانية، كونه أحد الشخصيات العالمية التي تتحكم في ترسانة نووية قادرة على نسف الكرة الأرضية في دقائق معدودة.
وكان مختصون من جامعة سانت جون الأميركية، قد حللوا شخصية بوتين نفسياً ومنهجياً في دراسة علمية منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، مروراً بالتدخل العسكري الروسي في سوريا، ليتم نشرها في النهاية، بشكل علني بعد التدخُّل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016م، لكنها عادت للأضواء مجدداً بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وحددت الدراسة، 5 نقاط رئيسية في شخصية بوتين، تتعلق بكيفية تعبيره عن نفسه، وتعامله مع الآخرين، ونظرته للعالم، ونظرته لذاته، وكيفية تبرير الأمور لنفسه، حيث اعتمدت الدراسة على منهج تحليل الشخصيات السياسية لعالِم النفس الأميركي “تيودور ميلون”، والذي يُعرف الشخصية بأنها: “نمط معقد من الخصائص النفسية المتجذرة بعمق التي تكون إلى حدٍّ كبير غير واعية ولا يمكن تغييرها بسهولة، وتُعبِّر عن نفسها تلقائيا في كل جانب من جوانب الأداء تقريبا”.
ويرتكن هذا التحليل للشخصيات السياسية وسلوكها على أكثر من 10 عوامل يحصل فيها الشخص، بحكم سلوكه الظاهر للباحثين، على تقدير يتراوح من الضعيف إلى المَرَضي، ففي الحالة الأخيرة، تظهر اضطرابات الشخصية مثل النرجسية والحدية وغيرها.
وأظهرت الدراسة أن بوتين، لم يحصل على أية درجة مَرَضية في المعاييرالسابقة، بيد أنه قد سجَّل درجة عالية جداً في 3 منها، وهي السيطرة، والطموح، ويقظة الضمير التي تشير إلى الحذر والاجتهاد والإتقان، وذلك على الرغم من أن هذا التحليل لا يتعلق بالانطباع عن النظام السياسي الروسي بل شخصية بوتين التي تقوده، على النحو التالي:
التعبير عن النفس
أشارت الدراسة، إلى أن بوتين غير عاطفي وتنافسي وصريح في تعبيره، ويميل إلى إظهار نفسه بصفة الحزم وقوى الإرادة، لكنها ألمحت إلى أنه قد يصل إلى التعجرف وإثارة الجدل في بعض الأحيان، فضلاً عن ميوله إلى التعنُّت والعناد والسلوكيات القسرية في أحيان أخرى، جراء اهتمامه الزائد بالقوة.
وأوضحت أن بوتين، سيكون صريحاً ومفاجئاً وغير صبور إذ مس شيء ما ميوله ناحية القوة، بل ربما أن يتطور إلى نوبات من السلوكيات المتهورة أو العدوانية، مبينة أن هذه السمة تجعل صاحبها حساس تجاه الإهمال أو التوبيخ أو التقليل من شأنه، بجانب الاستجابة الانعكاسية الانتقامية وسهولة استفزازه للهجوم عند الضغط عليه “خاصة في الأمور الشخصية”.
وأضافت أن “ملمح الطموح من شخصية بوتين يدفعه للظهور واثقا من نفسه دائما، ومؤهَّلا وعلى استعداد دائم للفعل، ويحاول خلال ذلك أن يفرض جوا من الهدوء، لكنه يميل -في الصورة المتطرفة منه- إلى التصرف بطريقة مغرورة، أو قد يُظهِر الغطرسة أو اللا مبالاة أو الوقاحة أو الفوقية أو الافتقار إلى النزاهة أثناء التنافس. جميع أشكال هذا النمط تتمحور حول الذات إلى حدٍّ ما، وتفتقر إلى الكرم والمعاملة بالمثل اجتماعياً” وفقاً لموقع جامعة سانت جون الأميركية.
وتابعت : “أمثال بوتين عادة ما يبذلون قصارى جهدهم لدعم القواعد والمعايير التقليدية، ويتبعون اللوائح بدقة، وعادة ما يكونون مسؤولين حقا، وموثوقين وحذرين ودقيقين ومنضبطين ومنظمين إلى درجات عليا، لكن ذلك يميل في درجاته العليا إلى الجمود، حيث تتحكَّم بهم تلك السمات الجادة إلى درجة من العناد، فالعواطف مُقيَّدة بأسلوب حياة منظم للغاية، والملابس رسمية أو مُقيَّدة في اللون والأسلوب.
التعامل مع الآخرين
توصلت الدراسة، إلى أن سلوك بوتين، مع الآخرين يتمركز حول وجوده القيادي كشخص موثوق وقوي ومقنع وتوجيهي، لافتة إلى أنه غالبا ما يحاول أن يُملي قوانينه على الآخرين، ولديه استعداد للضغط عليهم من أجل الامتثال للأوامر.
وأوضحت الدراسة، أن شخصية مثل بوتين تبرع في شق طريقها من خلال إكراه الآخرين على الاحترام والخضوع، مشيرة إلى أن الأمر قد يتطرَّف إلى ما هو أعمق من ذلك، ويصل إلى الحصول على الرضا الذاتي في ترهيب وإكراه وإذلال الآخرين.
وأضافت :”سياسياً، كثيراً ما يجد الأفراد أصحاب هذا النمط الإكراهي، بكل تدرُّجاته، مكاناً ناجحاً لأنفسهم في الأدوار التي تحظى فيها السلوكيات العدائية بالإعجاب الاجتماعي، مما يوفر منفذا للعداء الانتقامي المتخفي تحت ستار المسؤولية الاجتماعية”.
وتابعت: “في المقابل، يفتقر هذا النوع من الشخصيات إلى التعاطف الحقيقي مع الآخرين، ويتوقعون خدمات دون تحمُّل مسؤوليات متبادلة، بل وقد يتطوَّر الأمر -في حال تطرُّفه- إلى أشكال استغلالية مثل التلاعب بالآخرين لإشباع رغباتهم أو تعزيز أنفسهم أو تعزيز أجندتهم الشخصية، لكن في الصورة المتوسطة فإن هذه الشخصية تدرس نقاط ضعف الآخرين -المنافسين خصوصاً والجميع عموما- وعن طريق الإخلال بتوازن الآخرين يحققون درجات من السيطرة”.
وأردفت: “لكن جميع أشكال هذا النمط من الشخصية تمتاز بقدر من الجرأة والوقاحة التي غالبا ما تعكس الثقة والسلطة وتُثير الإعجاب والامتثال من الآخرين، خاصة أن سلوكهم -على الرغم من جرأته- يمكن أن يتسم باللباقة، لأنهم يلتزمون بشدة بالأعراف والقوانين الاجتماعية، كونهم ذوي ضمير حي يجعلهم مخلصين لعائلاتهم وقضاياهم ورؤسائهم، ويعاملون مَن فوقهم باحترام ويُكرِّسون أنفسهم لإقناع السلطات بولائهم وكفاءتهم وعقلهم الجاد”.
رويته للعالم
أظهرت الدراسة، أن شخصة بوتين، تندرج ضمن الشخصيات التي تدفع عن معتقداتها الراسخة التي تشكل ذاتها والعالم المحيط بها، موضحة أن هذه السمة تعني ميل مثل هذه الشخصيات إلى أن تكون مؤدلجة؛ تفتقر إلى الموضوعية وتتشبَّث بعناد بالأفكار والمعتقدات والقيم السابقة، وفي الصورة الأكثر تطرُّفا منها ربما تتسم بالتعصُّب وضيق الأفق، وربما تغيب عنها المرونة بحكم الميل إلى تغليب القناعات الأيديولوجية على حساب المنطق، ونادرا ما تتنازل عن موقفها حول أي قضية مهما كانت الأدلة تدعم ذلك، مبينة أن هذه الأسباب، تعني أن أصحاب هذه الشخصية غالباً غير متسامحين اجتماعيا ومتحيزين بطبيعتهم، خاصة ضد الفئات الاجتماعية التي تبدو بالنسبة لهم “مستهترة” أو “سائلة”.
وأبانت الدراسة، أن أصحاب هذا النمط من الشخصية مبتكرون وواسعو الحيلة ويؤمنون بشدة بفعاليتهم، وقد يتطوَّر ذلك في الحالات المتطرفة ليجعلهم منشغلين بتخيُّلات تمجيد الذات بسبب الإنجاز أو الشهرة، وقد تصل المبالغة في إنجازاتهم إلى حد تحويل، أو قُل تبرير، الفشل وكأنه نجاح. لكنهم في هذا السياق ليسوا ساذجين، بل أهم ما يميز شخصياتهم هو الطبيعة الحذرة، إلى جانب الحصافة والمنهجية والاهتمام بالتفاصيل، ومن ثم يعملون بجد على تجنُّب المخاطر.
وأضافت: “يميل هذا النوع من الشخصيات كذلك إلى النظر إلى المشاعر الرقيقة بوصفها علامة ضعف، ويتجنَّبون تعبيرات الدفء والأُلفة، ويُشكِّكون مباشرة في اللطف والرحمة، وحينما تظهر لدى الآخرين هذه العلامات، فإنهم يستغلونها كما أسلفنا. أضف إلى ذلك أن تحليل الشخصية أشار إلى أن طبيعة مزاج بوتين قد تجعله مستعدا لإلحاق الأذى بالآخرين إذا لزم الأمر”.
وتابعت: “لا يتصرَّف هؤلاء فقط وكأنهم يحتكرون معرفة الصواب والخطأ، بل يعتقدون أيضا أن لديهم حقا وواجبا للسيطرة على المخالفين ومعاقبتهم، وأنهم مؤهلون لتحديد كيفية تنفيذ العقوبة. في مجال الخدمة العامة، فإن وظيفتهم أولا هي البحث عن المخالفين للقواعد ومرتكبي المخالفات العَرَضية التي تقع ضمن اختصاص دورهم المعتمد اجتماعيا، ومن ثم ممارسة سلطاتهم المشروعة إلى أقصى حد”.
رؤيته لنفسه
توصلت الدراسة إلى أن أمثال بوتين، ينظرون إلى أنفسهم على أنهم حازمون، وصريحون، وغير عاطفيين، وجريئون، فضلاً عن تمتعهم بالإرادة القوية والحيوية والقيادة، ما يجعلهم يفخرون بوصف أنفسهم بأنهم أقوياء وواقعيون، مشيرة إلى أن هذه الصورة المتمحورة حول القوة تجعل من الصعب على أصحاب هذه الشخصية الاعتراف بالدوافع الخبيثة أو الانتقامية، فالسلوك العدائي من جانبهم يؤطَّر عادة بعبارات اجتماعية إيجابية، مما يُعزِّز إحساسهم بالذات.
وأضافت: “هناك دائما يقين لدى هذه الشخصيات حول الكفاءة الذاتية، ينظرون إلى أنفسهم على أنهم جديرون بالتقدير بشكل غير عادي، على الرغم من أن الآخرين قد يرونهم على أنهم أنانيون أو متعجرفون. في الصورة المتطرفة من هذه الشخصية يوجد إحساس مُتفوِّق بالذات، حيث يعتبرون أنفسهم يتمتعون بصفات فريدة ومميزة، ويستحقون إعجابا كبيرا، ويحق لهم التمتع بحقوق وامتيازات غير عادية”.
وتابعت: “كذلك قد يبالغ أصحاب هذه الشخصية في تقدير جوانب أنفسهم التي تُظهِر الفضيلة والاستقامة الأخلاقية والانضباط، ويخافون من الخطأ أو سوء التقدير. إنهم مكرسون بإفراط للعمل، مع وجود اتجاه مماثل لتقليل أهمية الأنشطة الترفيهية، ولديهم حذر زائد تجاه الخطأ أو سوء تقدير الأمور، وحساسية مفرطة للمخالفة أو النقد، الذي ربما يكون مدمرا لإحساسهم المفرط بذواتهم”.
التبرير للنفس
كشفت الدراسة، عن أن نوعية الشخصية التي تنطبق على بوتين، يمكن أن تفصل نفسها عاطفياً عن تأثير أفعالها العدوانية على الآخرين، موضحة أنه في المواقف السياسية ربما تكون هذه الشخصيات قد تعلَّمت أن هناك أوقاتاً يكون من الأفضل فيها كبح جماح رغباتهم العدوانية تجاه الأعداء أو غير المنضبطين، ومن ثم قد يُخفِّفون من عدائهم، وفي أحيان أخرى يعمدون إلى “العقلنة”، أي إعطاء جوانب عقلانية لسلوكياتهم، وصبغها بأعذار معقولة ومقبولة اجتماعيا.
وأضافت: “على الجانب الآخر، قد تستبق هذه الشخصيات الرفض الذي يتوقعونه من الآخرين من خلال إبراز عدائهم لهم، وبالتالي تبرير أفعالهم العدوانية على أنها مجرد رد فعل مضاد للاضطهاد الذي كان قادما من الآخرين. تدعم هذه الديناميكيات “فلسفة الغابة” للحياة، حيث يكون الملاذ الوحيد المتصوَّر هو التصرف بطريقة جريئة ونقدية وحازمة وعديمة الرحمة، يُبرِّر بعض أصحاب هذه الشخصية صلابتهم ومكرهم بأن الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة في هذا العالم هي الهيمنة والسيطرة”.
وتابعت: “في النهاية، قد ترى أن هذه السمات ترسم صورة شخص شرير ذي شعر غير مُنسَّق، لكن كما أسلفنا فإن الدراسة تُحدِّد الشخصية على أنها نمط معقد من الخصائص النفسية المتجذرة بعمق التي تكون إلى حدٍّ كبير غير واعية، لذلك فإنها تعرض لسمات شخصية لا تظهر للناس، لكنها تُحدِّد ما يظهر للناس. الأمر الأهم أن نعرف أن الكثير من الناس يمتلكون سمات شبيهة بدرجات مختلفة، وأننا جميعا تقريبا نمتلك آليات خاصة للتبرير وتناقضات كامنة في ذواتنا، وقد نضغط على أحبائنا بعض الشيء لتحقيق أهداف نظنها أخلاقية، ولكن هذه السمات قد تصبح لدى البعض، خاصة القادة السياسيين ذوي التأثير، مُحدِّدة للقرار السياسي في السِّلم والحرب، خاصة حال كانت متطرفة قليلا، أو كثيرا، وفي سياق أجواء متطرفة بطبعها مثل الحرب”.
CNN: «بوتين» رهن الاعتقال خارج روسيا في هذه الحالة