سياسة

كيف تحولت الصين من “التودد” إلى “تحدي” ترامب والرسوم الجمركية؟

وضعت الصين مسؤولي الحكومة المدنية في بكين في حالة “تأهب حربي”، وأطلقت حملة دبلوماسية واسعة لحشد الدعم الدولي ضد الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفقًا لما أفاد به أربعة مصادر مطّلعة لوكالة “رويترز”.

وقالت المصادر إن مسؤولي الدعاية في الحزب الشيوعي لعبوا دورًا محوريًا في صياغة رد بكين، حيث بث متحدثون رسميون مقاطع مصورة على وسائل التواصل تتضمن تصريحات تاريخية للزعيم الراحل ماو تسي تونغ، يقول فيها: “لن نستسلم أبدًا”.

وفي إطار هذا “الوضع الحربي”، الذي يتم الكشف عن تفاصيله للمرة الأولى، أُمر موظفو وزارتي الخارجية والتجارة بإلغاء إجازاتهم والبقاء في حالة جاهزية تامة على مدار الساعة، مع تعزيز الأقسام المعنية بالشؤون الأمريكية بكوادر سبق أن تعاملت مع إدارة ترامب في ولايته الأولى.

ويعكس هذا التحرك المتشدد من جميع مؤسسات الدولة في بكين تحولًا حادًا في الاستراتيجية، بعدما كانت الصين تسعى لتجنب تصعيد المواجهة التجارية. فطوال الأشهر الماضية، حاول دبلوماسيون صينيون فتح قنوات تواصل رفيعة المستوى مع إدارة ترامب للدفاع عن ما وصفته وسائل الإعلام الرسمية بأنه “علاقة تجارية رابحة للطرفين”.

حتى أن بعض المحللين الصينيين أبدوا تفاؤلًا بإمكانية التوصل إلى صفقة شاملة تشمل التجارة وتطبيقات مثل “تيك توك”، وربما حتى ملف تايوان.

هذا التحول من محاولة التهدئة إلى الرد الحازم، تخلله فرض رسوم جمركية انتقامية، ويستند إلى مقابلات أجرتها “رويترز” مع أكثر من 12 مصدرًا، من بينهم مسؤولون أمريكيون وصينيون، ودبلوماسيون وخبراء مطلعون على الاتصالات الثنائية.

وأشار أربعة من هؤلاء إلى أن الدبلوماسيين الصينيين خاطبوا حكومات أخرى تضررت من الرسوم الأمريكية، وأرسلوا رسائل تعاون إلى عدة دول، من بينها دول حليفة للولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية.

ولم ترد وزارة الخارجية الصينية على طلب للتعليق، في حين قال متحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن: “الصين لا ترغب في خوض حرب تجارية، لكنها لا تخشاها”. وأضاف: “إذا وضعت الولايات المتحدة مصالحها فوق المصلحة العامة للمجتمع الدولي، فستواجه مقاومة أشد من المجتمع الدولي”.

من جانبه، صرّح ترامب بعد الرد الصيني الأولي قائلًا: “الصين لعبت أوراقها بشكل خاطئ وارتبكت – وهذا ما لا تستطيع تحمّله!”، مدعيًا أن بكين تريد إبرام صفقة “لكنها لا تعرف كيف تبدأ بذلك”.

ويحمّل مسؤولون أمريكيون الصين مسؤولية الجمود بسبب فائضها التجاري الهائل مع العالم، وهو ما يعتبرونه نتيجة لممارسات تجارية غير منصفة لم تُحل رغم سنوات من المفاوضات.

الرسوم الجمركية تهز العالم

وفي الثاني من أبريل، فاجأ ترامب العالم بإعلانه فرض رسوم جمركية واسعة النطاق، مؤكدًا أنها تهدف لحماية الاقتصاد الأمريكي من “السرقة” – في إشارة إلى الصين. وفي خطوة نادرة، أصدر الرئيس الصيني شي جين بينغ رسالة وطنية مشككًا في قدرة الناخبين الأمريكيين على تحمّل تداعيات هذه الحرب التجارية.

وقد تم تعليق معظم الرسوم الجديدة لمدة 90 يومًا لجميع الدول باستثناء الصين. وبينما تجمّدت حركة السلع بين البلدين بشكل كبير، بدأت بكين في اتخاذ إجراءات على تجارة الخدمات، ونصحت مواطنيها بعدم السفر إلى الولايات المتحدة، وفرضت قيودًا على استيراد الأفلام الأمريكية.

بداية دبلوماسية ثم تصعيد سريع

رغم وعود ترامب الانتخابية بفرض رسوم جمركية، إلا أن العلاقة مع بكين بدأت بأجواء ودية، حيث دُعي الرئيس شي لحضور حفل التنصيب الذي مثّله فيه نائب الرئيس الصيني.

لكن العلاقات سرعان ما تدهورت. فخلال إدارة ترامب الأولى، كان هناك عدد من القنوات الرفيعة للتواصل، أبرزها بين السفير السابق كوي تيانكاي وصهر ترامب، جاريد كوشنر. أما اليوم، فلا توجد قناة مماثلة.

وقال مسؤول في إدارة ترامب إن “الولايات المتحدة أوضحت للصين أنها ترغب في استمرار التواصل على المستوى العملي، لكنها لن تنخرط في حوارات لا تحقق مصالحها”.

وباءت محاولات وزير الخارجية الصيني وانغ يي للقاء مسؤولين أمريكيين بالفشل، إذ لم يتمكن من الاجتماع بوزير الخارجية ماركو روبيو، ولا بمستشار الأمن القومي مايك والتز، رغم محادثات سابقة جمعته بسلفه جاك سوليفان.

وترى واشنطن أن على الصين إرسال مسؤول تجاري رفيع للتفاوض، فيما قال وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك إنه “لا يتفاوض مع الصين”، مؤكدًا أن ترامب يريد محادثة مباشرة مع الرئيس شي.

لكن المسؤولين الأمريكيين قالوا إنهم طلبوا مرارًا من الدبلوماسيين الصينيين ما إذا كان شي يرغب في الاتصال بترامب، وكانت الإجابة دائمًا: “لا”.

ويرى خبراء صينيون أن النظام السياسي في بكين لا يستجيب لهذا النوع من الدعوات. إذ عادةً ما يتم الاتفاق على التفاصيل عبر فرق العمل، ثم يُنظّم لقاء القمة بعد ذلك.

دروس من الماضي

استفادت الصين من خبرتها السابقة في التعامل مع إدارة ترامب، ووضعت ما يشبه “دليل الرد الانتقامي”، يتضمن فرض رسوم على نحو 60 شركة أمريكية، وتقييد صادرات المعادن النادرة.

وجاء الرد الصيني السريع على إعلان ترامب، بإطلاق رسوم مضادة قبل أن تدخل الرسوم الأمريكية حيز التنفيذ. وأدى ذلك إلى تراجع كبير في الأسواق الأمريكية.

ووصف أحد المسؤولين الصينيين سرعة القرار بأنها مشابهة لتلك التي اتُّخذت خلال جائحة كورونا، أي دون الحاجة لاعتماد بيروقراطي طويل.

ورغم التصعيد، ظهرت دعوات صينية لتجنّب التوسّع في الرسوم، حيث اقترح بعض المؤثرين الصينيين على وسائل التواصل فرض قيود محددة، مثل تعليق التعاون في مكافحة “الفنتانيل”، أو فرض قيود إضافية على المنتجات الزراعية والأفلام الأمريكية.

وفي تطور لافت، قالت وزارة المالية الصينية إن الرسوم الجمركية على السلع الأمريكية وصلت إلى 125%، مؤكدة أنها لن ترد على أي زيادات لاحقة من واشنطن، ووصفت الاستراتيجية الأمريكية بأنها “مزحة”.

تعبئة داخلية وتحشيد خارجي

استدعت الخارجية الصينية عددًا من رؤساء بعثاتها في الخارج لاجتماع خاص في بكين، بهدف تنسيق الرد على الرسوم.

كما أرسلت رسائل رسمية إلى حكومات أخرى، تحثها على الوقوف ضد ما وصفته بالهيمنة الأمريكية، والتأكيد على التعددية في النظام التجاري العالمي.

وتحاول الصين صياغة بيان مشترك مع بعض دول مجموعة العشرين لدعم النظام التجاري المتعدد الأطراف، رغم استمرار المخاوف لدى تلك الدول من سياسات بكين الصناعية.

داخليًا، ركزت بكين على التهدئة، ونشرت الصحف الرسمية مقالات تدعو المواطنين إلى عدم الهلع، مع الترويج لزيادة الإنفاق المحلي، وتقليص الاعتماد على التصدير.

في مشهد رمزي، نشرت السلطات مقطعًا قديمًا للزعيم ماو تسي تونغ من عام 1953، خلال حرب كوريا، يقول فيه: “لن نستسلم أبدًا.. سنقاتل حتى نحقق النصر الكامل”.