أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبادرة دبلوماسية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، مثيرًا قلق حلفائه الأوروبيين ببدء محادثات مع روسيا دون إشراك كييف، وإلقاء اللوم عليها في الغزو الروسي عام 2022. هذه الخطوة، التي قد تُعد هدية سياسية لموسكو، تحمل أيضًا تأثيرات اقتصادية كبيرة، إذ تمنح روسيا فرصة لتخفيف وطأة العقوبات الغربية التي أرهقت اقتصادها.
ويواجه الاقتصاد الروسي معضلة حاسمة، وفقًا لأوليج فيوجين، النائب السابق لرئيس البنك المركزي الروسي، حيث يتعين عليه إما تقليص الإنفاق العسكري لكبح التضخم، أو الإبقاء عليه وتحمل تبعات الركود وارتفاع الأسعار وتراجع مستويات المعيشة. فرغم أن الإنفاق الحكومي يحفز النمو عادة، فإن تركيز الموارد على الصناعات العسكرية بدلًا من القطاعات المدنية أدى إلى اختلال اقتصادي كبير.
وفي ظل هذه الأوضاع، اضطر البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة إلى 21% للحد من التضخم، ما أعاق الاستثمارات وأبقى الاقتصاد في حالة اضطراب. غير أن مبادرة ترامب قد تتيح لموسكو متنفسًا اقتصاديًا، عبر تخفيف العقوبات أو إعادة هيكلة أولوياتها المالية، مما يمنحها فرصة لاستعادة التوازن بعد ثلاث سنوات من الحرب.
كيف يمكن لاتفاق سلام أن يغير المعادلة الاقتصادية؟
يرى الخبراء أن أي اتفاق دبلوماسي قد يخفف من الضغوط الاقتصادية على روسيا، حيث سيمكنها من إعادة توزيع الموارد بفعالية أكبر، مما يسهم في كبح التضخم وتجنب الركود التضخمي. ويشير فيوجين إلى أن إنهاء الحرب عبر التفاوض هو السبيل الوحيد لتجنب استمرار تدهور الاقتصاد بفعل تخصيص الموارد لأغراض غير إنتاجية.
ورغم أن موسكو لن تقلل إنفاقها الدفاعي فورًا، إذ يمثل حوالي ثلث الموازنة العامة، فإن احتمالية إبرام اتفاق قد يحد من ضغوط أخرى، مثل العقوبات، وربما يمهد لعودة بعض الشركات الغربية إلى السوق الروسي.
ويقول ألكسندر كولياندر، الباحث في مركز تحليل السياسات الأوروبية (CEPA)، إن موسكو ستتردد في خفض الإنفاق العسكري فجأة، خشية التسبب في ركود اقتصادي، لكنها قد تقلل من عدد المجندين، مما يخفف الضغط على سوق العمل، الذي يعاني من نقص حاد في الأيدي العاملة بسبب الحرب والهجرة.
كيف تأثرت الأسواق الروسية؟
على خلفية الحديث عن اتفاق محتمل، شهدت الأسواق الروسية انتعاشًا ملحوظًا، حيث ارتفع سعر صرف الروبل إلى أعلى مستوياته في ستة أشهر مقابل الدولار. كما ساهمت التوقعات بشأن تخفيف العقوبات في دعم الأسواق المالية.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الروسي سجل نموًا قويًا بعد الانكماش الطفيف عام 2022، فإن البنك المركزي الروسي يتوقع تباطؤ النمو في عام 2024 إلى ما بين 1% و2%، مقارنة بـ 4.1% في العام السابق.
رفع البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة إلى 21% في 14 فبراير الماضي، مبررًا قراره بأن الطلب في السوق تجاوز قدرة الإنتاج، ما أدى إلى تباطؤ طبيعي في النمو. غير أن التحدي الأساسي يكمن في إيجاد توازن بين تحفيز الاقتصاد وكبح التضخم، وهو ما يزيد صعوبة المهمة في ظل السياسة المالية التوسعية التي تتبعها الحكومة.
هل تستطيع روسيا مواصلة التمويل العسكري؟
أدى التضخم المالي الهائل إلى ارتفاع العجز المالي الروسي إلى 1.7 تريليون روبل (19.21 مليار دولار) في يناير 2024 وحده، وهو ارتفاع هائل مقارنة بالعام السابق. وقالت إلفيرا نابيولينا، محافظ البنك المركزي، أن الحكومة بحاجة إلى ضبط العجز ضمن المستويات المخططة. ومع أن وزارة المالية تتوقع انخفاض العجز في 2025، إلا أن تعديلات الموازنة المتكررة تعكس الضغوط الاقتصادية المتزايدة.
من المستفيد ومن المتضرر في الداخل الروسي؟
شهد الاقتصاد الروسي شهد تباينًا في التأثيرات، فبينما استفاد العاملون في الصناعات العسكرية من ارتفاع الأجور بفضل الإنفاق الحكومي، تضرر العاملون في القطاعات المدنية جراء ارتفاع الأسعار. بعض الشركات نجحت في استغلال التغيرات في حركة التجارة، مثل مجموعة “ميلون فاشون”، التي استفادت من زيادة الطلب الاستهلاكي وتوسعت بشكل ملحوظ.
على النقيض، تواجه شركات أخرى صعوبات بالغة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مما يعيق إطلاق مشاريع جديدة. وتقول إيلينا بوندارشوك، مؤسسة شركة تطوير المستودعات «أورينتير»، إن تكلفة الاقتراض المرتفعة أدت إلى تقلص عدد المستثمرين القادرين على تمويل المشاريع، كما أن القلة المتبقية تعتمد على شروط البنوك الصارمة.
ما التحديات المقبلة؟
إلى جانب العقوبات الغربية، يمثل انخفاض أسعار النفط، وتزايد الديون المتعثرة لدى الشركات، وقيود الميزانية مخاطر رئيسية على الاقتصاد الروسي. وفي حين أن ترامب قد يمنح موسكو متنفسًا دبلوماسيًا واقتصاديًا عبر مفاوضات السلام، فإنه في الوقت نفسه هدد بفرض عقوبات إضافية في حال فشلها.
ويوضح كريس ويفر، الرئيس التنفيذي لشركة «ماكرو أدفايزوري ليمتد»، أن «الولايات المتحدة تمتلك نفوذًا كبيرًا على الاقتصاد الروسي، ولهذا السبب ترغب موسكو في التفاوض”. ويضيف: “واشنطن تقول بوضوح: يمكننا تخفيف العقوبات إذا تعاونتم، لكن إذا لم تفعلوا، فبإمكاننا جعل الأمور أسوأ بكثير».
بذلك، تبقى روسيا أمام مفترق طرق اقتصادي وسياسي، حيث سيحدد مسار المفاوضات بشأن أوكرانيا مدى قدرتها على تجاوز التحديات الاقتصادية المستمرة.