ثقافة

الأطعمة السعودية.. رحلة الحفاظ على التراث عبر الأطباق المفقودة

الطهي السعودي التقليدي

ليست الأطباق الشعبية مجرد أطعمة يتميز بها شعب ما، وإنما جزءًا رئيسًا من تراث ثقافي عميق تمتد جذوره عبر العصور، وفي قلب الثقافة السعودية، تقف الأطعمة التقليدية كشاهدٍ على تاريخ طويل من التقاليد الغذائية التي تميزت بها مناطق المملكة المختلفة.

فليست هذه الأطباق مجرد وسائل لإشباع البطون، بل قصصًا عبرت الأجيال وصُنعت بمزيج من الإرث البيئي والاجتماعي، ومع تعاقب الزمن، وجدت بعض هذه الأطعمة نفسها مهددة بالاندثار، ما أثار اهتمام المملكة لتبني جهود شاملة للحفاظ على هذا الإرث الغذائي الفريد.

في سبتمبر 2022، اتخذت «هيئة فنون الطهي السعودية» خطوة مهمة بإدراج 13 صنفًا من الأطعمة التقليدية المهددة بالاندثار ضمن قائمة «سفينة التذوق»، وهي قائمة دولية تدعمها منظمة «سلو فود» العالمية، التي تهدف إلى حفظ الأطعمة النادرة وتوعية الجمهور العالمي بأهميتها.

رحلة في عالم الأطعمة المهددة بالاندثار

تحتضن كل منطقة سعودية إرثًا غذائيًا مميزًا يعكس خصائصها البيئية، فعلى سبيل المثال، «ملح القصب» في منطقة الرياض عنصر أساسي يُعتمد عليه منذ القدم، لكنه الآن مهدد بالاختفاء نتيجة تراجع المساحات الزراعية التقليدية، وفي مكة المكرمة، نجد فاكهة «الكباث»، أو ما يُعرف بـ «فاكهة النبي»، التي تشتهر بها المنطقة، فيما يُعدّ «تمر الحليّة» من أندر التمور التي تميز المدينة المنورة.

وتمتد القائمة لتشمل «الأرز الحساوي» من منطقة الجوف، و«البن الخولاني السعودي» من جبال الباحة، الذي يُعرف بجودته العالية. كما تضم القائمة «الكمأة» أو «الفقع» من الحدود الشمالية، وهو نوع من الفطر البري النادر. هذه الأصناف ليست مجرد أطعمة بل تمثل ذاكرة حية تُعيد إحياء حقبة زمنية من تاريخ المملكة وتكشف عن أنماط الحياة التقليدية لسكانها.

تحديات تهدد البقاء

تواجه العديد من هذه الأطعمة تحديات متنوعة تهدد استمراريتها، منها التغيرات المناخية التي تؤثر على زراعتها، والتوسع الحضري الذي زاحم المساحات الزراعية، وكذلك تناقص الاهتمام بالمهن التقليدية التي تعنى بتحضيرها، مما جعل بعض الأطباق التقليدية في طي النسيان.

فـ«ملح القصب» لم يعد يُنتج بوفرة كما في السابق، و«الإبل الحمر» في منطقة حائل أصبح نادرًا، كما أن الأجيال الجديدة لا تعير اهتمامًا كبيرًا للزراعة التقليدية لبعض المحاصيل الأساسية في المطبخ المحلي مثل الأرز الحساوي وبذور السمح.

هيئة فنون الطهي وجهود إحياء التراث الغذائي

لمواجهة هذه التحديات، تعمل هيئة فنون الطهي بجهود دؤوبة للحفاظ على هذا التراث وتوثيقه، لا سيما من خلال إدراج الأطعمة التراثية في الفعاليات الدولية مثل «صالون ديل جوستو – تيرا مادري» في إيطاليا، مما يساعد في عرض الأطعمة السعودية على نطاق عالمي وإتاحة الفرصة للتعريف بها.

تأسست الهيئة ضمن رؤية المملكة 2030، حيث تسعى إلى تعزيز مكانة المطبخ السعودي دوليًا، كما أطلقت مشاريع محلية، منها مشروع «إرث»، الذي يهدف إلى فتح مطاعم ومقاهٍ تقدم الأطباق السعودية التقليدية مع توفير فرص للأسر المنتجة لعرض منتجاتها، مما يسهم في دعم الاقتصاد المحلي.

مبادرة «صناع التذوق»

وفي خطوة لتعزيز هذه الجهود، أطلقت الهيئة مبادرة «صناع التذوق»، في سبتمبر الماضي، وهي مبادرة تستهدف الشباب السعودي من رواد الأعمال في مجال الطهي، فتسعى لتدريبهم وتطوير مهاراتهم في إعداد الأطباق التراثية مع تعزيز الابتكار. تشمل المبادرة ورش عمل تدريبية وجلسات استشارية مع طهاة دوليين، مما يمنح الشباب فرصة للتفاعل وتبادل الخبرات، ويدعم مساعي الحفاظ على الأطباق التقليدية في إطار حديث، يلائم المتطلبات المعاصرة ويضعها على خارطة الطهي العالمية.

الطهي التقليدي كمحرك للاقتصاد الوطني

ترى هيئة فنون الطهي في الأطعمة التراثية إمكانات كبيرة لدعم رؤية 2030، عبر تحويل قطاع الطهي إلى مصدر مهم للاقتصاد الوطني. وتركز الرؤية على تحقيق الاستدامة وإبراز الهوية الثقافية للمملكة، حيث تأمل المملكة أن تتحول إلى مركز إقليمي للطهي والمأكولات، ليكون ذلك جسرًا يعبر من خلاله العالم للتعرف على الإرث الثقافي السعودي الثري.

ولا يقتصر دور هيئة فنون الطهي على الحفاظ على أطعمة تقليدية، بل إنها تساهم في بناء مستقبل ثقافي يربط بين الماضي والحاضر، ليبقى التراث السعودي حيًّا في ذاكرة الأجيال القادمة، فمن خلال هذه المبادرات، تتجدد الجهود لتعريف العالم بالمطبخ السعودي كرمز للهوية والتراث، ما يعكس التزام المملكة بتعزيز ثقافتها عبر الاستدامة والابتكار، مما يجعل من الحفاظ على هذه الأطعمة رسالة أوسع لتبني الماضي وتطويره من أجل الحاضر والمستقبل.