تشهد معدلات الخصوبة العالمية انخفاضًا مستمرًا، لتصل اليوم إلى مستويات غير مسبوقة، بينما يتجاوز عدد سكان العالم 8 مليارات ومن المتوقع أن يقترب من 10 مليارات بحلول 2050. ومع تراجع الخصوبة، تواجه مناطق مثل شرق آسيا وأوروبا وروسيا انخفاضًا سكانيًا ملموسًا خلال العقود القادمة.
هذا التراجع له آثار مزدوجة؛ من جهة، يقلق الخبراء من تأثيره على الاقتصاد نتيجة نقص العمال والمبتكرين، وارتفاع نسبة كبار السن، مما يضغط على أنظمة التقاعد والرعاية الاجتماعية. ومن جهة أخرى، قد يوفر انخفاض عدد السكان فرصًا اقتصادية، مثل إعادة توجيه الإنفاق نحو البحث والتطوير، وزيادة مشاركة القوى العاملة، وتعزيز الادخار ورأس المال البشري، مع تخفيف الضغوط البيئية.
معدلات الخصوبة العالمية
في عام 1950، بلغ المعدل العالمي للخصوبة حوالي 5 أطفال لكل امرأة خلال سنوات الإنجاب، وفق بيانات شعبة السكان في الأمم المتحدة، وهو معدل أعلى بكثير من المستوى المطلوب للحفاظ على استقرار السكان عند 2.1 طفل لكل امرأة. ومع انخفاض معدلات الوفيات عالميًا، أدى ذلك إلى تضاعف عدد سكان العالم خلال نصف قرن، من 2.5 مليار نسمة عام 1950 إلى 6.2 مليارات عام 2000.
وبعد مرور خمسة وعشرين عامًا، انخفض معدل الخصوبة العالمي إلى 2.24، ومن المتوقع أن يهبط إلى أقل من 2.1 بحلول عام 2050، ما يشير إلى بداية انكماش سكاني عالمي لاحق. وتتوقع الأمم المتحدة أن يصل عدد السكان إلى ذروته عند 10.3 مليارات نسمة عام 2084، مع تقديرات لعام 2050 تتراوح بين 8.9 و10 مليارات نسمة، بحسب اختلاف معدلات الخصوبة بين 1.61 و2.59 طفل لكل امرأة.
هذا الاتجاه في تراجع الخصوبة العالمية يشمل معظم مناطق العالم؛ ففي الفترة من 2000 إلى 2025، انخفضت معدلات الخصوبة في جميع مناطق الأمم المتحدة وفي كل فئات الدخل، ومن المرجح استمرار هذا التوجه خلال السنوات الـ25 المقبلة، بما يشير إلى انكماش سكاني عالمي محتمل.
الاستثناء الأبرز هو إفريقيا وبعض الدول منخفضة الدخل في قارات أخرى، حيث ما تزال معدلات الخصوبة 4 أطفال أو أكثر. ومع تراجع أعداد السكان في معظم المناطق، من المتوقع أن ترتفع حصة إفريقيا من سكان العالم من 19% في 2025 إلى 26% في 2050.
ومع الانتقال العالمي من معدلات خصوبة ووفيات مرتفعة إلى منخفضة، تتسارع وتيرة الانكماش السكاني. فخلال الربع قرن المقبل، ستشهد 38 دولة يزيد عدد سكانها على مليون نسمة تراجعًا سكانيًا، مقارنة بـ21 دولة فقط خلال الـ25 عامًا الماضية.
وستكون أكبر الخسائر السكانية في الصين (155.8 مليون)، واليابان (18 مليونًا)، وروسيا (7.9 ملايين)، وإيطاليا (7.3 ملايين)، وأوكرانيا (7 ملايين)، وكوريا الجنوبية (6.5 ملايين).
ورغم الترابط الواضح بين انخفاض الخصوبة دون 2.1 وانكماش السكان، إلا أن هذا الارتباط ليس مطلقًا؛ ففي 6 دول من أصل 21 دولة انخفضت خصوبتها دون 2.1 خلال الفترة 2000–2025، أدى الاعتماد على الهجرة إلى منع تراجع عدد السكان.
الأنماط الحديثة والمتوقعة للانكماش السكاني تختلف جذريًا عن الحالات التاريخية البارزة. فالتراجع السكاني في الماضي كان نتيجة كوارث وهجرات جماعية وصدمات مالثوسية مثل المجاعات والإبادات والحروب والأوبئة. وبلا شك، فإن توقعات السكان في روسيا وأوكرانيا تتأثر بثلاث سنوات من الحرب المستمرة منذ الغزو الروسي في فبراير 2022.
كما اختلفت الموجات السابقة في شدتها ووتيرتها. فخلال الطاعون الأسود (1346–1353)، فقدت أوروبا الغربية أكثر من ربع سكانها بمعدل تراجع سنوي تجاوز 4%. وبالمقارنة، فإن مولدوفا — أسرع الدول تناقصًا في القرن الحالي — فقدت نحو 1% سنويًا منذ عام 2000.
ومن ناحية أخرى، يؤدي انخفاض الخصوبة إلى ظاهرة موازية: شيخوخة السكان. وهذا يزيد من حدة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه الدول المتراجعة سكانيًا.
من 2025 إلى 2050، سترتفع نسبة السكان فوق 65 عامًا في الدول التي يتراجع عدد سكانها من 17.3% إلى 30.9%. وحتى في الدول ذات السكان المستقرين أو المتزايدين، سترتفع هذه الشريحة من 3.2% إلى 5.5%.
تحديات انخفاض الخصوبة
انخفاض الخصوبة وتراجع عدد السكان يمثلان تحديًا مزدوجًا للاقتصادات والمجتمعات. فكلما قلّ عدد المواليد، يتناقص عدد العمال والمستهلكين والمدّخرين، ما قد يبطئ النمو الاقتصادي ويزيد مخاطر الركود. كما أن نقص العلماء والمبتكرين يقلل من تدفق الأفكار الجديدة ويضعف قدرة الدول على الابتكار، وهو ما يشير إليه الاقتصادي تشارلز جونز من جامعة ستانفورد، الذي يؤكد أن انخفاض الخصوبة يحدّ من توليد الأفكار الجديدة ويخنق الابتكار.
إضافة إلى ذلك، يؤدي انخفاض معدلات المواليد إلى ارتفاع نسبة كبار السن، ما يضغط على أنظمة الرعاية الصحية والتقاعد ويزيد الأعباء على القوى العاملة. فالشباب هم محرك الإنتاج والابتكار، بينما كبار السن يحتاجون لرعاية طويلة الأمد ويستهلكون الموارد الاقتصادية.
انخفاض النمو السكاني يمكن أن يؤثر أيضًا على القوة العسكرية والنفوذ السياسي. فقد لاحظ بعض المؤرخين أن انخفاض الخصوبة وبطء النمو السكاني ساعدا في تراجع قدرة فرنسا على مواجهة هزيمتها في الحرب الفرنسية–البروسية عام 1871.
الفرص الاقتصادية
رغم هذه التحديات، يحمل انخفاض الخصوبة فرصًا اقتصادية مهمة. فعدد أقل من الأطفال يقلل الإنفاق على السكن ورعاية الأطفال، ما يتيح توجيه الموارد نحو التعليم، البحث العلمي، وتبني التقنيات الحديثة. كما يمكن أن يشجع انخفاض الخصوبة زيادة مشاركة النساء في سوق العمل، رفع معدلات الادخار، وتراكم رأس المال البشري والمادي.
الأهم من حجم السكان هو جودة رأس المال البشري، أي قدرة الأفراد على التعلم والإنتاج والابتكار. فعدد الأفراد الأصحاء والمتعلمين يحدد قدرة المجتمع على النمو المعرفي والتكنولوجي. ويشير الاقتصادي عوديد جالور إلى أن انخفاض الخصوبة مصحوبًا بتحسين التعليم يعزز رأس المال البشري ويدعم الازدهار طويل الأمد.
كما قد يسهم تراجع عدد السكان في تحسين البيئة وتقليل الضغوط على الموارد الطبيعية، مثل تلوث الهواء والمياه والتربة، وتدهور التنوع البيولوجي، وتغير المناخ، ما يعزز رفاه المجتمع بشكل عام.
التكيف وإعادة الهيكلة
تطرح مسألة انخفاض الخصوبة أسئلة صعبة أمام صانعي السياسات: متى يجب التدخل، وما الإجراءات الأنسب؟ في الواقع، ليس هناك خطأ جوهري في أن ينمو الاقتصاد أو يتراجع بالتوازي مع عدد السكان، لكن التحديات تظهر في آثار انخفاض الخصوبة، مثل انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي، وتراجع الابتكار والنمو، والضغوط على نظم دعم كبار السن.
لقد دفعت هذه المخاطر بعض الدول إلى اتخاذ إجراءات لمعالجة انخفاض الخصوبة أو تثبيتها. فمثلاً، سجلت كوريا الجنوبية مؤخرًا ارتفاعًا في معدل المواليد لأول مرة منذ تسع سنوات، وألغت الصين سياسة الطفل الواحد، بينما قدمت اليابان ترتيبات عمل مرنة، وأعادت عدة دول أوروبية هيكلة نظم الضمان الاجتماعي لضمان استدامتها.
يمكن اعتماد سياسات صديقة للأسرة لتشجيع الإنجاب، مع مراعاة أن أي زيادة في عدد الأطفال تستغرق وقتًا قبل أن تنعكس على القوى العاملة، وقد تفرض ضغوطًا اقتصادية على الأسر والدولة. وتشمل هذه السياسات تمكين التوازن بين العمل والأسرة، مثل الإعفاءات الضريبية للعائلات الكبيرة، وإجازات أبوية أطول وأكثر مرونة، ورعاية أطفال عامة أو مدعومة، ودعم علاجات العقم.
كما يمكن للاستثمار في التعليم وتحسين جودته أن يعزز قدرة السكان على الابتكار والإنتاجية، ما يزيد من قيمة العمل ويرفع مستوى الرفاهية الفردية والمجتمعية. وتُعد تغييرات سياسات التقاعد، مثل رفع سن التقاعد، وسيلة فعّالة للحفاظ على قوة العمل، إذ تسمح للأفراد بالاستمرار في الإنتاجية لفترة أطول. ويصبح الجمع بين سياسات الخصوبة، والتعليم، والصحة، والسياسات الاقتصادية أكثر فاعلية عند تطبيقها بشكل متكامل.
ويجب على صانعي السياسات أيضًا الانتباه للتحولات في سوق العمل الناتجة عن الرقمنة، والروبوتات، والأتمتة، والذكاء الاصطناعي. هذه التقنيات لا توفر فرصًا اقتصادية فحسب، بل تغيّر طبيعة الوظائف وطرق أدائها، بما قد يؤثر أيضًا على قرارات الإنجاب وأنماط الخصوبة.
يشهد العالم اليوم تحولًا ديموغرافيًا كبيرًا، من النمو السكاني السريع في القرن الماضي إلى الانكماش في القرن الحالي، مع انخفاض مستمر وسريع في معدلات الخصوبة وارتفاع غير مسبوق في أعداد كبار السن. ومن الحكمة أن يولي صانعو السياسات اهتمامًا وثيقًا بالدراسات والأدلة العالمية حول هذه التحولات، حتى لو لم يُتبع كل التوصيات حرفيًا، ليكونوا قادرين على وضع استراتيجيات فعّالة للتكيف مع هذه التغيرات.














