تستدير أمّ شابة لتنادي «أليكسا» فتلتفت معها عينا طفلها الرضيع؛ كانت الكلمة بين أوائل ما تعرّف إليها، إلى جانب «ماما» و«بابا». هكذا دُونت ملاحظة صحفية مبكرة سجّلت كيف دخل المساعد الصوتي قاموس الطفولة اليومية منذ عام 2018.
اليوم، ومع تحوّل الشات بوتات الصوتية إلى رفقاء يُجيبون لحظيًا عن كل تساؤل، يبرز سؤال أكبر: ماذا يحدث حين يتعلّم الدماغ، في سنوات التشكل الأولى، أن يتوجه إلى ذكاء اصطناعي يرد دائمًا بالإجابة؟
تسابق شركات التقنية الزمن لإطلاق أجهزة منزلية موجهة للصغار، حيث تطوّر أمازون إصدارات «Alexa+» التي تسمح للأطفال بتأليف قصص تفاعلية، بينما تبحث الأسر المرهقة عن حلول رقمية لتسكين فضول أبنائها الذي لا ينتهي.
في الوقت ذاته، تقدم منصات مثل Aura أدوات لمراقبة الوقت أمام الشاشة وحالة الطفل الانفعالية، في محاولة لتحقيق توازن بين الراحة الرقمية وسلامة النمو النفسي والاجتماعي.
ويعكس هذا التوجه تغيرًا جوهريًا في الطريقة التي يتفاعل بها الأطفال مع التكنولوجيا منذ سنواتهم الأولى.
تحذر جرّاحة الأطفال وخبيرة تنمية اللغة المبكرة «دانا سسكيند» من أنّ التفاعل الحي مع الشات بوتات قد «يغيّر فعليًا الأسلاك التأسيسية لدماغ الإنسان» عندما يُعرض له الأطفال في سنوات التكوين، وهي فترة تُبنى فيها الشبكات العصبية بوتيرة سريعة عبر التواصل الوجاهي مع البالغين
وتلفت سسكيند إلى أن المراهقين والبالغين بدأوا بالفعل في بناء روابط عاطفية مع الذكاء الاصطناعي، ما يثير مخاوف من أن ينتقل هذا النمط إلى من هم دون الخامسة، حيث تكون الهوية الاجتماعية والعاطفية في طور التشكّل.
من جانبه، يرى الأخصائي النفسي سكوت كولينز، كبير المسؤولين الطبيين في شركة Aura، أنّ الإفراط في الوقت أمام الأجهزة عطّل بالفعل مراحل نمو اجتماعية مهمة لدى الأطفال الأكبر سنًا.
أما بالنسبة للفئة العمرية من صفر إلى خمس سنوات، فإن الأثر قد يكون أعمق، إذ تتكاثر المنعطفات النمائية في هذه المرحلة بوتيرة متسارعة. وتشير بيانات Aura إلى أن الأطفال يقضون أكثر من ثلاثة أشهر سنويًا أمام الشاشات، وهو ما يستدعي مراقبة دقيقة وتدخلات تربوية تضمن عدم تعارض هذا الوقت مع اللعب الحسي والتفاعل البشري المباشر.
في دراسة نُشرت عام 2024 في مجلة Computers in Human Behavior، تبين أن أطفالًا تتراوح أعمارهم بين 3 و6 سنوات فضّلوا السؤال عن أسماء أشياء جديدة من روبوت، حتى حين كان الإنسان أكثر دقة. والأخطر أن الأطفال فسّروا أخطاء البشر على أنها «مقصودة» في حين اعتبروا أخطاء الروبوت «عَرَضية»، وهو ما يقلب مفهوم الثقة التقليدي رأسًا على عقب.
ورغم أن الدراسة اعتمدت على مقاطع فيديو وليست تفاعلات حيّة، فإن نتائجها أثارت قلقًا واسعًا لدى الباحثين في مجال تكوين التعاطف والعلاقات الإنسانية المبكرة.
تميل نماذج الذكاء الاصطناعي إلى الموافقة المستمرة بهدف إرضاء المستخدم، فيما يسميه بعض الخبراء «السيكوفنسية الرقمية». هذا الميل يُربك عملية تعلّم الطفل لإيقاع الحوار الطبيعي الذي يتضمن الرفض أو الاختلاف، وهما عنصران أساسيان لتكوين شخصية مستقلة.
ويشير خبراء التقنية إلى أن كثرة الموافقة من الشات بوتات قد تجعل الأطفال أقل استعدادًا لمواجهة الإحباط أو سماع كلمة «لا» في الحياة الحقيقية.
إضافة إلى الميل إلى الإرضاء، تبقى ظاهرة «الهلاوس» -أي توليد معلومات غير صحيحة بثقة عالية- إحدى أبرز التحديات التي تعترف بها شركات التقنية نفسها. إذ تعتمد النماذج على توقع الكلمة التالية في السياق، وليس على معرفة مؤكدة، ما قد يؤدي إلى تلقين الأطفال معلومات خاطئة يتعاملون معها كحقائق.
بالمقابل، تشير أبحاث مبكرة من باحثين في التعليم إلى أن التفاعل مع القصص التي يرويها الذكاء الاصطناعي قد يساعد الأطفال على تعلّم مفردات جديدة وفهم القصص بشكل أعمق مقارنة بالمشاهدة السلبية. بل وصلت بعض النتائج إلى أن هذه الفوائد تقارب تلك التي تقدمها التفاعلات البشرية الموجهة، لكن الخبراء يشددون على ضرورة انتظار دراسات طويلة الأمد قبل اعتماد هذه النتائج بشكل قاطع.
تقول الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال (AAP) إنّه لا يوجد «رقم سحري» لوقت الشاشة، لكنها توصي بمنع التعرض للشاشات لمن هم دون 18 شهرًا (باستثناء المكالمات المرئية)، والالتزام بساعة واحدة يوميًا من محتوى عالي الجودة للأطفال بين سنتين وخمس سنوات، بشرط مشاركة أحد الوالدين لتفسير المحتوى.
ويؤكد الخبراء أن جودة التفاعل تتفوق على كميته، وأن على الأهل توفير بدائل للعب الواقعي والنشاطات الإبداعية.
يدعو المتخصصون إلى «الإشراك المشترك»، أي أن يشارك الأهل أطفالهم لحظات التفاعل مع الشات بوت، مع ربط ما يقوله الذكاء الاصطناعي بتجارب حسية واقعية، مثل رؤية تفاحة حقيقية بعد أن يخبرهم البوت عن لونها.
وتقول سسكيند إن بناء الدماغ الأمثل يحدث عبر التبادل الإنساني الحي، بينما يرى خبراء طب الأطفال أن الشاشات، مهما كانت ذكية، لا تعوّض تعابير الوجه ولغة الجسد التي تُعلّم الطفل مهارات التعاطف وفهم الآخرين.
مما سبق، وبينما نقترب اليوم من مرحلة لم يعد فيها «وقت الشاشة» مجرد مشاهدة للرسوم المتحركة، بل حوارًا حيًا مع كيانات لغوية متاحة طوال اليوم. لا تدعو المعطيات الحالية إلى ذعر، لكنها تشدد على ضرورة وضع حدود واضحة، ومرافقة الأطفال في أثناء استخدام الذكاء الاصطناعي، وتذكيرهم بأن وراء كل «نعم» رقمية، هناك عالم حقيقي يحتاج إلى الاكتشاف والتجربة.