مع انتقال جموع حجاج بيت الله الحرام من مشعر منى بعد إتمامهم يوم التروية، صوب صعيد عرفات لأداء الركن الأعظم من فريضة الحج، تبرز أمامهم واحة خضراء تتشكل من مئات الآلاف من أشجار النيم، كأنها تفتح ذراعيها مرحبة بقدومهم.
ويضم هذا الغطاء النباتي الكثيف ما يقرب من 500 ألف شجرة نيم موزعة بعناية في أرجاء المشعر، لا يمثل فقط معلمًا بصريًا مميزًا، بل يُعد جزءًا حيويًا من مشروع بيئي استراتيجي ضخم. ويوفر هذا المشروع للحجيج ملاذًا طبيعيًا من وهج الشمس أثناء فترة وقوفهم بعرفات، والتي تمتد حتى غروب الشمس.
ولا تقتصر فوائد هذه الأشجار على توفير الظلال للحجيج، بل تمتد لتشمل دورًا هامًا في تلطيف المناخ الصحراوي الحار السائد خلال موسم الصيف، والمساهمة في ترطيب الأجواء. كما تعمل كحاجز طبيعي يسهم في وقاية ضيوف الرحمن من الغبار المتطاير ويقلل بشكل كبير من خطر تعرضهم لضربات الشمس والإجهاد الحراري.
تعود قصة انتشار أشجار النيم في صعيد عرفات إلى مبادرة قبل نحو أربعة عقود، وتحديدًا في عام 1984م، حين أهدى الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري آلافًا من غراس هذه الشجرة إلى المملكة. وقد وجدت هذه الشتلات الناشئة اهتمامًا بالغًا ورعاية فائقة من قبل المسؤولين السعوديين، لتضرب بجذورها في أرض عرفات وتنمو لتشكل اليوم غطاءً نباتيًا واسعًا.
وفي البداية، اقتصرت زراعة أشجار النيم على المواقع الحيوية والطرق الرئيسية في المشعر، مثل محيط جبل الرحمة والمنطقة المجاورة لمسجد نمرة. ولكن بفضل العناية المستمرة والتوسع المدروس، امتدت رقعة زراعتها عامًا تلو الآخر، حتى غدت ظلالها الوارفة تغطي اليوم مساحات شاسعة من مشعر عرفات، مقدمةً للحجيج ملاذًا طبيعيًا من وهج الشمس ومرطبًا للأجواء.
تنحدر شجرة “النيم” في أصولها من جنوب شرق آسيا في مناطق الغابات والأخشاب في الهند وميانمار وسيرلانكا، وتُعرف بأنها شجرة ضاربة في القدم. وقد كان للبريطانيين دور في إدخالها إلى السودان عام 1921، ومن هناك انتشرت لتزين شوارع العديد من المدن السودانية ومنازلها ومؤسساتها. وتُصنف “النيم” ضمن الفصيلة الزنزلختية، وتتميز بخصائص فريدة، أبرزها قدرتها على تحسين خواص التربة عبر تنقيتها من الأملاح. وهي شجرة سريعة النمو، ذات أوراق عريضة وكثيفة، وتُعرف بعمرها المديد الذي قد يصل إلى 180 عامًا، ويمكن أن ترتفع لنحو 20 مترًا بأغصانها المتعددة.
أما شهرتها الأوسع، فتأتي من استعمالاتها الطبية المتعددة التي عُرفت بها منذ قديم الزمن. هذه الفوائد العلاجية المتنوعة أكسبتها ألقابًا عديدة تعكس مكانتها في الطب الشعبي والتقليدي، فباتت تُعرف بـ”شجرة العجائب”، و”شجرة الألف علاج”، و”صيدلية القرية”، وأيضًا “نبات الأربعين علاجًا”، و”منجم الذهب الغني”، و”المُعافية من الأمراض”، بالإضافة إلى كونها شجرة دائمة الخضرة تساهم في تجميل البيئة.
وتتميز شجرة النيم أيضًا بقدرتها على النمو السريع ومقاومة الجفاف، كما تستخدم بذور وأوراق النيم في استخلاص مواد مكافحة الآفات في الهند وسريلانكا، كما يستخرج من البذور الزيت إنتاج الصابون ومستحضرات التجميل المختلفة، إضافة إلى استخراج مستحضرات طبية من البذور واللحاء والأوراق تفيد كمطهر ومضاد للفيروسات وخافض للحرارة ولعلاج الالتهابات والقرحة والجدري.