يُمثّل جيفري إبستين حالة فريدة من نوعها في سجلات الجريمة والنفوذ، حيث تمكن هذا الممول الذي نشأ في بروكلين من الصعود إلى قمة النخبة العالمية قبل أن يُدان بجرائم جنسية خطيرة.
بلغت ثروته عند وفاته نحو 578 مليون دولار أمريكي، كما أحاط الغموض مسيرته المهنية التي جمعت بين براعة مالية مزعومة وشبكة معقدة من العلاقات مع السياسيين والمليارديرات.
ويُعدّ تتبع المسار الزمني لحياة جيفري إبستين، من بداياته في وول ستريت إلى نهايته المأساوية في السجن، أمرًا ضروريًا لفهم كيفية عمل منظومة الاستغلال والحماية التي سمحت لجرائمه بالاستمرار لعقود.
مرحلة بناء شبكة علاقات جيفري إبستين
بدأت المسيرة المهنية لجيفري إبستين في عالم المال بعد أن عمل لفترة وجيزة مدرسًا للرياضيات والفيزياء في مدرسة دالتون المرموقة.
انتقل إبستين إلى وول ستريت في عام 1976 ليعمل في شركة الاستثمار بير ستيرنز، كما صعد بسرعة ليصبح شريكًا محدودًا في عام 1981 قبل أن يغادر في العام نفسه لإنشاء شركته الاستشارية الخاصة.
وبحلول عام 1988، أسس شركة " J. Epstein and Company"، حيث زعم أنه يدير أصولًا مالية لعملاء تزيد ثروتهم عن مليار دولار أمريكي، بينما كانت معظم تفاصيل عملياته غامضة.
وكان ليزلي ويكسنر، المؤسس الطويل الأمد لشركة "فيكتوريا سيكريت"، هو العميل الوحيد الذي تم الكشف عنه علنًا.
بدأت هذه الشراكة في عام 1991، حيث منح ويكسنر إبستين صلاحيات كاملة للتصرف في أصوله المالية وأوقافه.
جنى جيفري إبستين من هذه العلاقة أكثر من 200 مليون دولار أمريكي، كما انتقل للعيش في قصر ويكسنر المترامي الأطراف في مانهاتن، مما عزز من ثروته وأضفى عليه الشرعية الاجتماعية.
وفي محاولة للاستفادة من المزايا الضريبية، أسس إبستين شركة فايننشال تراست كومباني في جزر فيرجن الأمريكية في عام 1998، حيث حصل على إعفاءات ضريبية سخية وفّر له نحو 300 مليون دولارًا أمريكيًا في الفترة ما بين 1999 و2018.
متى ظهرت الاتهامات لجيفري إبستين؟
شهد عام 2005 بداية الكشف عن الجانب المظلم من حياة جيفري إبستين، حيث أبلغ والدا فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا شرطة بالم بيتش بأن الممول قد اعتدى على ابنتهما في قصره.
تبع ذلك تحقيق للشرطة ومكتب التحقيات الفيدرالي "FBI" كشف عن قيام إبستين بدفع أموال لفتيات قاصرات مقابل جلسات تدليك.
وفي عام 2008، أُبرمت صفقة سرية ومثيرة للجدل مع المدعي العام الأمريكي في ميامي، ألكسندر أكوستا، حيث تجنب جيفري إبستين التهم الفيدرالية الخطيرة التي كانت ستعرضه للسجن المؤبد.
أسفرت المفاوضات السرية عن إقرار إبستين بالذنب في تهمتين على مستوى الولاية تتعلقان بالتحريض على الدعارة وتحريض قاصر، كما حُكم عليه بالسجن لمدة 18 شهرًا.
قضى إبستين 13 شهرًا فقط من الحكم، كما سُمح له بالخروج للعمل خلال النهار، وهو ما أثار غضب الضحايا.
ويُعتبر هذا الإخفاق القانوني المعروف بـ "صفقة القرن" القضائية دليلاً على قوة النفوذ المالي والسياسي لـ جيفري إبستين، كما أدى هذا التهاون لاحقًا إلى استقالة أكوستا من منصبه كوزير للعمل في عام 2019 بعد تجدد التدقيق الإعلامي.
عودة إبستين إلى الواجهة
وبعد إطلاق سراحه في عام 2009، استمر إبستين في التعامل مع شخصيات مؤثرة وقوية لقرابة عقد من الزمان.
وفي عام 2012، دخل في شراكة مالية جديدة وهامة مع ليون بلاك، المؤسس المشارك لشركة أبولو جلوبال مانجمنت، حيث دفع له بلاك ما يقرب من 170 مليون دولارًا أمريكيًا لتقديم المشورة بشأن الضرائب وإدارة الأصول، وشكلت هذه المدفوعات شريان حياة لجيفري إبستين بعد أن خسر ويكسنر.
تزايدت الضغوط القانونية والإعلامية ضد إبستين، لا سيما بعد الدعوى المدنية التي رفعتها فيرجينيا جوفري ضد غيلين ماكسويل في عام 2015، والتي طالبت بالكشف عن وثائق المحكمة.
وفي عام 2018، نشرت صحيفة ميامي هيرالد تقريرًا استقصائيًا ألقى الضوء على نشاط إبستين الإجرامي، كما كشف عن تفاصيل الصفقة القانونية المبرمة في 2008، وهو ما أدى إلى تجديد الاهتمام الفيدرالي بقضيته.
وبحلول يناير 2019، بدأت السلطات الأمريكية في ملاحقة جيفري إبستين بتهمة إدارة شبكة اتجار بالقاصرات على نطاق واسع.
الاعتقال الثاني والوفاة داخل السجن
اعتُقل جيفري إبستين في يوليو 2019 بتهم فيدرالية جديدة تتعلق بالاتجار بالجنس والتآمر. رُفض الإفراج عنه بكفالة، كما سُجن في مركز متروبوليتان الإصلاحي في مانهاتن.
وفي 10 أغسطس 2019، عُثر على إبستين ميتًا داخل زنزانته، وقد حكم مكتب الطبيب الشرعي بأن وفاته كانت انتحارًا شنقًا.
أثارت ملابسات الوفاة جدلاً واسعًا ونظريات مؤامرة متزايدة، حيث شكك الكثيرون في فرضية الانتحار، كما زعموا أنه قُتل لإسكاته بسبب ما يملكه من معلومات عن شخصيات قوية.
قوبلت الوفاة بغضب من قبل الضحايا اللاتي حُرمن من فرصتهن في مواجهة إبستين في المحكمة.
سيرة جيفري إبستين مستمرة بعد الوفاة
وبالرغم من انتهاء الملاحقة الجنائية لإبستين بوفاته، تعهد المدعون بمواصلة التحقيق مع شركائه. وفي يوليو 2020، وُجهت اتهامات لغيلين ماكسويل، صديقة إبستين وشريكته القديمة، كما أدينت في ديسمبر 2021 بتهم الاتجار بالجنس والتآمر، وفي يونيو 2022، حُكم على ماكسويل بالسجن 20 عامًا.
استمرت تداعيات القضية في الظهور من خلال الدعاوى المدنية والكشف عن وثائق المحكمة، ففي فبراير 2022، توصل الأمير أندرو إلى تسوية مع الضحية فيرجينيا جوفري.
وفي عام 2024، أُطلق سراح آلاف الوثائق التي كانت سرية سابقًا، حيث كشفت عن أسماء العشرات من الأفراد الذين ارتبطوا بجيفري إبستين، ومن بينهم بيل كلينتون ودونالد ترامب ونجوم مثل مايكل جاكسون وديفيد كوبرفيلد.
واستمرت التكهنات حول وجود "قائمة عملاء" سرية، كما أدت الضغوط السياسية في عام 2025 إلى تصويت الكونغرس على مشروع قانون يلزم وزارة العدل بالإفراج عن المزيد من الملفات المتعلقة بإبستين وغيلين ماكسويل، مما يضمن استمرار هذا الملف الشائك في الواجهة العامة.














