في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، حيث كانت الحياة تضج قبل الحرب بالباعة والطلاب وصرخات الأطفال، لا يُسمع اليوم سوى هدير الجرافات. عشرات الآلات الثقيلة تشق طريقها بين أكوام الركام، ترفع حجارة المباني المهدّمة وتعيد فتح ما كان يومًا شريان المدينة. لكن السؤال الذي يثقل كل هذا الغبار يبقى حاضرًاK كم يزن الدمار في غزة؟
يُقدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن كمية الأنقاض في غزة تتراوح بين 55 و60 مليون طن، وهو رقم يكاد يصعب تخيله. ولشرح ضخامته، قدّم ممثل البرنامج في فلسطين، جاكو سيليرز، تشبيهًا لافتًا: «لو بُني جدار بارتفاع 12 مترًا حول حديقة سنترال بارك في نيويورك وامتلأ بالركام، فسيعادل تقريبًا حجم ما يجب رفعه في غزة». مشهدٌ ذهني يلخّص عمق الكارثة، إذ تبدو المدينة الصغيرة وقد تحوّلت إلى متحف مفتوح للخراب.
لكن رفع الأنقاض ليس مجرد عمل هندسي. إنه الفعل الأول في معركة طويلة ضد الجمود والانسداد. فإزالة الركام تمهّد لعودة الخدمات الأساسية: المستشفيات، والمدارس، وشبكات المياه والكهرباء، وكل ما يرمز إلى الحياة الطبيعية التي انقطعت فجأة.
في 18 أكتوبر 2025، أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي انطلاق عملية واسعة النطاق لإزالة الركام من الطرق الرئيسية، كخطوة أولى في خطة شاملة لإدارة الأنقاض. وخلال زيارة ميدانية لشارع الجلاء، وقف توم فليتشر، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، إلى جانب سيليرز، متابعين سير الأعمال. كانت الشاحنات تصطف واحدة تلو الأخرى، فيما تمتد يد العمال إلى أحجار لا يعرف أحد لمن كانت، أو أي بيت كانت تحميه.
يقول سيليرز في حديث مع أخبار الأمم المتحدة، إن «الخطوة الأولى هي تنظيف الطرق وتسهيل الوصول إلى المستشفيات والمدارس والمباني الاجتماعية الأخرى». لكنّ التحدي الأكبر، كما يضيف، «هو في الحجم غير المسبوق للركام، والموارد المطلوبة للتعامل معه».
في مقابل مشهد الدمار، تسعى فرق الأمم المتحدة إلى صناعة بداية جديدة من داخل الركام نفسه. فالمواد التي تُرفع تُعاد معالجتها وسحقها واستخدامها في رصف الطرق، أو في بناء قواعد للخيام والمرافق المؤقتة. إنها محاولة لإحياء الدورة الطبيعية للحياة في مدينة أُنهكتها الحرب.
بهذه الطريقة، لا تتحول الأنقاض إلى عبء بيئي إضافي، بل إلى مورد يعيد للمدينة بعض توازنها. يقول سيليرز «نريد أن نجعل من عملية إزالة الركام فرصة لإعادة التفكير في البناء نفسه، في أن تكون غزة أكثر مرونة واستدامة».
رغم الحراك المحموم في الشوارع، يدرك الجميع أن الطريق لا يزال طويلاً. فبحسب المسؤول الأممي، ستستغرق عملية إزالة الركام سنوات طويلة قبل أن تستقر المدينة على أرض نظيفة يمكن البناء فوقها. وهو يصفها بأنها «عملية مرهقة للغاية»، ليس فقط من حيث الوقت، بل أيضًا فيما تتطلبه من موارد مالية ضخمة وتنسيق دولي متواصل.
يأتي هذا بعد شهور من الحرب التي خلّفت تدميرًا هائلًا في البنية التحتية والمنازل والمنشآت الاقتصادية. وبحسب تقارير البنك الدولي، فإن إعادة إعمار غزة بعد جولات سابقة من الصراع كانت تستغرق ما بين 5 و10 أعوام، رغم أن حجم الدمار حينها كان أقل بكثير مما هو عليه اليوم.