بعد أربعة عقود من الزمن قضاها خلف القضبان في فرنسا، عادت شخصية جورج عبدالله لتتردد من جديد في الأوساط اللبنانية، ليس فقط كخبر عن إطلاق سراح سجين، بل كعودة لرمز سياسي معقد من حقبة مضت، ليجد نفسه في وطن متغير ومنقسم حول معنى إرثه. وتتجاوز قصة جورج عبدالله، الناشط الشيوعي الذي سُجن مدى الحياة في عام 1987 بتهمة التواطؤ في اغتيال دبلوماسيين أمريكي وإسرائيلي في باريس عام 1982، جدران السجن لتلامس الذاكرة السياسية والجراح التي لم تندمل في لبنان.
لم يكن استقبال جورج عبدالله في مطار بيروت اليوم حدثًا عابرًا، بل كان استعراضًا حيًا للانقسام في الذاكرة اللبنانية. فمن جهة، احتشد أنصاره، من بينهم نواب وشخصيات يسارية، رافعين أعلام الحزب الشيوعي اللبناني والفلسطيني، وقرعوا الطبول احتفاءً بمن يعتبرونه “مقاتلاً من أجل تحرير فلسطين” وبطلًا أمميًا. وقد سارعت قوى سياسية مثل الحزب الشيوعي وحزب الله إلى الإشادة بصموده، حيث وصفه الأخير بأنه “رمز لكل أسير ومقاتل وشريف رفع راية الكرامة”، مؤكدين على صورته كأيقونة للمقاومة لم تتنازل عن مبادئها.
على الجانب الآخر، خيّم صمت مطبق على أطراف سياسية رئيسية أخرى، وتحديدًا الأحزاب المسيحية البارزة مثل القوات اللبنانية والكتائب. ويفسر المحللون هذا الصمت بأن هوية جورج عبدالله السياسية تتحدى الروايات التي بنتها هذه الأحزاب. فتحالفه مع الفصائل الفلسطينية المسلحة خلال الحرب الأهلية، ورفضه للسياسة الطائفية، يجعله شخصية إشكالية في نظر القوى التي بنت شرعيتها على حماية الهوية الطائفية. فبالنسبة لهم، هو يمثل حقبة من الصراع الداخلي لا يزال إرثها محل خلاف، حتى وإن اعتبر البعض أن عودته تساهم رمزيًا في طي صفحة الحرب الأهلية.
تُعد فترة سجن جورج عبدالله واحدة من أطول فترات الاعتقال السياسي في تاريخ أوروبا الحديث. فعلى الرغم من أنه أصبح مؤهلًا قانونيًا للإفراج المشروط منذ عام 1999، إلا أن جميع طلباته قوبلت بالرفض. ويشير أنصاره إلى أن أوامر قضائية فرنسية بالإفراج عنه صدرت في أعوام 2003 و2013 و2024، لكنها كانت تُلغى دائمًا في اللحظات الأخيرة، وهو ما يرجعونه إلى ضغوط سياسية هائلة، خاصة من الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين كانتا ترفضان إطلاق سراحه. وطوال هذه العقود، ظل جورج عبدالله متمسكًا بمواقفه، رافضًا التعبير عن أي ندم، وهو ما عزز صورته كأسطورة في الصمود لدى مؤيديه. وجاء قرار الإفراج الأخير من محكمة الاستئناف في باريس مشروطًا بمغادرته الأراضي الفرنسية بشكل نهائي.
وخارج الدوائر السياسية والأيديولوجية التي عاصرته، تبدو عودة جورج عبدالله حدثًا بعيدًا عن اهتمامات الجيل اللبناني الشاب. فبالنسبة للكثيرين الذين ولدوا بعد انتهاء الحرب الأهلية، اسمه غير مألوف، وهو يمثل رمزًا لزمن لم يعيشوه، طغت عليه أزمات الحاضر المتمثلة في الانهيار الاقتصادي، والشلل السياسي، وموجات الهجرة. ومع ذلك، فإن صورته عادت لتزين الملصقات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، ليس كشخصية من الماضي، بل كنموذج للرجل الذي تمسك بقناعاته مهما كانت العواقب. إن شخصية جورج عبدالله اليوم هي بطل بالنسبة للبعض، وشخصية جدلية لآخرين، ورمز منسي بالنسبة للكثيرين، وعودته تجبر لبنان على النظر مجددًا في مرآة تاريخه المعقد.