logo alelm
نزاع متجذر.. أسباب الصراع المتجدد بين تايلاند وكمبوديا

يشهد الشريط الحدودي بين دولتي جنوب شرق آسيا، تايلاند وكمبوديا، أعنف تصعيد عسكري له منذ أكثر من عقد، حيث انخرطت الدولتان في تبادل كثيف لنيران المدفعية الثقيلة، مما أسفر عن كارثة إنسانية تمثلت في مقتل ما لا يقل عن 16 شخصًا وتشريد عشرات الآلاف من المدنيين على جانبي الحدود. هذا الصراع، الذي اندلع في أعقاب مقتل جندي كمبودي في شهر مايو، لم يكن وليد اللحظة، بل هو أحدث فصول نزاع تاريخي معقد بين تايلاند وكمبوديا.

جذور الصراع بين تايلاند وكمبوديا

تعود جذور التوتر إلى أكثر من قرن من الزمان، وتحديدًا إلى عام 1907 عندما قامت فرنسا، بصفتها القوة الاستعمارية لكمبوديا آنذاك، بترسيم الحدود البرية التي يبلغ طولها 817 كيلومترًا. اعتمد هذا الترسيم على خط مستجمعات المياه الطبيعية، وهو ما اعترضت عليه تايلاند لاحقًا، لتظل أجزاء من الحدود غير محددة بشكل قاطع، مما خلق بؤر نزاع دائمة. ورغم تشكيل لجنة حدودية مشتركة في عام 2000 بهدف حل الخلافات سلميًا، إلا أنها لم تحرز أي تقدم يذكر.

وقد تحولت هذه الخلافات الحدودية مرارًا إلى أزمات قومية، خاصة حول المواقع التاريخية. ففي عام 2003، أضرم مثيرو الشغب النار في السفارة التايلاندية في بنوم بنه بسبب مزاعم حول تشكيك أحد المشاهير التايلانديين في سيادة كمبوديا على معبد أنغكور وات. لكن النقطة الأكثر اشتعالًا كانت معبد برياه فيهير الهندوسي، الذي حكمت محكمة العدل الدولية في عام 1962 بأنه يخص كمبوديا، ثم أكدت في عام 2013 أن الأراضي المحيطة به تابعة لها أيضًا، وهو حكم لم تعترف به تايلاند وكمبوديا بشكل كامل فيما يتعلق بالنزاع الأوسع. وقد أدت محاولة كمبوديا إدراج المعبد على قائمة اليونسكو في 2008 إلى اشتباكات عنيفة بلغت ذروتها في قصف مدفعي عام 2011.

علاقات دافئة في القمة وتصعيد على الأرض

من المفارقات أن التصعيد الأخير يأتي في وقت تتمتع فيه حكومتا تايلاند وكمبوديا بعلاقات دافئة، متأثرة بالروابط الوثيقة بين الزعيمين السابقين تاكسين شيناواترا وهون سين. إلا أن السياسة الداخلية والمشاعر القومية أثبتت أنها أقوى. فقد ارتفعت حدة التوتر في تايلاند بعد أن أثار المحافظون مخاوف بشأن خطة حكومية للتنقيب المشترك عن الطاقة في مناطق بحرية متنازع عليها، محذرين من أنها قد تعرض سيادة تايلاند للخطر. كما أدى حادث آخر في معبد تا موان ثوم، حيث حاول كمبوديون غناء نشيدهم الوطني، إلى تفاقم الوضع.

لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت تسريب مكالمة هاتفية بين رئيسة الوزراء التايلاندية آنذاك، بيتونجتارن شيناواترا، وهون سين، بدت فيها وكأنها تنتقد قائد جيشها، مما أثار غضبًا شعبيًا وعسكريًا في تايلاند وأدى في النهاية إلى تعليق عملها بأمر من المحكمة.

دوامة التصعيد الأخيرة بين الجانبين

بدأت المواجهة الحالية تكتسب زخمًا بعد اتهام بانكوك للقوات الكمبودية بزرع لغم أرضي أدى إلى إصابة جندي تايلاندي، وهو ما ردت عليه تايلاند بطرد السفير الكمبودي. وسرعان ما تبادل الطرفان الاتهامات بإطلاق الشرارة الأولى للقتال، الذي تحول إلى حرب مدفعية شاملة. استخدمت كمبوديا قاذفات صواريخ محمولة على شاحنات، بينما ردت القوات المسلحة التايلاندية باستخدام مقاتلات إف-16 لقصف أهداف عسكرية. وقد أدت هذه المواجهات إلى نزوح ضخم، حيث تم إجلاء حوالي 130 ألف شخص في تايلاند و12 ألف أسرة في كمبوديا.

أمام هذا التصعيد، تبدو طرق الحل مسدودة. فبينما تسعى كمبوديا إلى تدويل القضية عبر اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، واصفة ما يحدث بأنه “عدوان عسكري تايلاندي”، تصر تايلاند على أن الحل يجب أن يكون ثنائيًا وترفض اختصاص محكمة العدل الدولية في هذا الشأن، مشترطة وقف العنف قبل بدء أي محادثات. هذا الخلاف العميق في آلية الحل يبقي الصراع بين تايلاند وكمبوديا مفتوحًا على كل الاحتمالات، ويهدد استقرار المنطقة بأكملها. إن مستقبل العلاقات بين تايلاند وكمبوديا يعتمد على قدرتهما على تجاوز هذا المأزق الدبلوماسي والعسكري المعقد.

شارك هذا المنشور:

المقالة السابقة

هل يمكن تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب؟ الإجابة نعم!

المقالة التالية

خطة فرنسا للاعتراف بدولة فلسطين تثير عاصفة من الانتقادات