في إشارة واضحة على عودة الدفء إلى العلاقات بين أكبر اقتصادين في أوروبا، برز تحالف جديد وقوي بين فرنسا وألمانيا بعد وصول المستشار فريدريش ميرز إلى السلطة في برلين. هذا التحالف، الذي أُطلق عليه اسم “ميرزكرون” (دمجًا لاسم ميرز وماكرون)، يمثل تحولًا جذريًا عن فترة التوتر التي سادت في عهد المستشار السابق أولاف شولتز، ويهدف إلى قيادة استجابة أوروبية موحدة للتحديات الكبرى، وعلى رأسها الأمن، والحرب في أوكرانيا، والتعامل مع عدم اليقين في ظل رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
وقد تجلت هذه الشراكة المتجددة في سلسلة من اللقاءات المكثفة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرز، بالإضافة إلى مقال رأي مشترك نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز”، والذي حددا فيه رؤيتهما المشتركة لأوروبا. ويشير المراقبون إلى أن هذا المحور الجديد بين فرنسا وألمانيا قد بدأ بالفعل في إعادة تشكيل السياسات الدفاعية والخارجية للاتحاد الأوروبي.
يعود جزء كبير من نجاح هذا التحالف الجديد إلى الكيمياء الشخصية المفاجئة بين الزعيمين، رغم اختلاف أسلوبهما. ففي حين يوصف ماكرون (47 عامًا) بأنه صاحب رؤية ومسرحي، يُعرف ميرز (69 عامًا) بأنه مندفع ويميل أحيانًا إلى الخطاب الشعبوي. لكن على عكس العلاقة المتوترة بين ماكرون والمستشار السابق شولتز، الذي وُصف بأنه قليل العواطف ومنشغل بالشؤون الداخلية، وجد ماكرون وميرز أرضية مشتركة.
ووفقًا للدبلوماسي الألماني البارز فولفغانغ إيشينجر، فإن الزعيمين “يحبان التفاعل، ويستمتعان بالأسئلة الصعبة، ولديهما طريقة للتفاهم”. هذه العلاقة الشخصية المباشرة سهلت من عملية التنسيق بين فرنسا وألمانيا على أعلى المستويات، وشكلت الأساس الذي بُنيت عليه الأجندة المشتركة الطموحة.
وكان الموقف من الحرب في أوكرانيا هو الاختبار الأول والأوضح لمدى فعالية تحالف “ميرزكرون”. فبعد أن كانت هناك اختلافات واضحة في وجهات النظر، حيث كانت فرنسا دائمًا أكثر تشددًا في دعمها لكييف، شهدت الفترة الأخيرة تقاربًا كبيرًا في المواقف. وقد أشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى أن موقف المستشار ميرز “يختلف بعض الشيء عن موقف سلفه”، خاصة فيما يتعلق بمسألة تسليم صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا.
ومنذ توليه منصبه، كشف ميرز عن حزمة مساعدات جديدة بقيمة 5 مليارات دولار لأوكرانيا، تتضمن تعاونًا مشتركًا بين ألمانيا وفرنسا لتطوير صواريخ بعيدة المدى قادرة على ضرب أهداف في عمق روسيا. ووصف إيشينجر هذا التطور بالقول: “نحن الآن في وحدة تامة”. وقد أثارت هذه الوحدة الجديدة بين فرنسا وألمانيا انزعاج الكرملين، الذي رد بحملة تضليل إعلامي استهدفت الزعيمين.
شكلت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وإصراره على أن تبذل أوروبا المزيد من الجهود للدفاع عن نفسها، حافزًا رئيسيًا آخر لتعزيز التعاون الدفاعي بين فرنسا وألمانيا. هذه الضغوط “أجبرت البلدين على العمل معًا دبلوماسيًا وعسكريًا”، بحسب هولاند. وقد تجلى ذلك في خطط مشتركة لزيادة الإنفاق الدفاعي بهدف الوصول إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي في الاستثمارات العسكرية الأساسية.
وقد قادت ألمانيا هذا التحول بخطوات تاريخية، حيث أقر ميرز إصلاحًا دستوريًا يسمح بتخصيص أكثر من نصف تريليون دولار للإنفاق الدفاعي، وتعهد ببناء أكبر جيش في أوروبا. وفي تحول لافت، أكد هولاند أن فرنسا لم تعد تخشى إعادة تسليح ألمانيا كما في الماضي، بل “نحن نرحب بها”.
من ناحية أخرى، يدرك زعيما فرنسا وألمانيا أن التناغم بين بلديهما، رغم أهميته، لم يعد كافيًا لقيادة الاتحاد الأوروبي. فقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى انتقال مركز ثقل الاتحاد الأوروبي شرقًا، مما جعل من بولندا حليفًا حيويًا. ولهذا السبب، يعمل ماكرون وميرز على إحياء “مثلث فايمار”، وهو تحالف استراتيجي يجمع فرنسا وألمانيا وبولندا.
وقد أصبحت بولندا لاعبًا رئيسيًا بفضل نموها الاقتصادي السريع، والتزامها بإنفاق دفاعي يتجاوز 4% من ناتجها المحلي الإجمالي، وموقعها الجغرافي الحساس. وقد بدأ هذا التحول يظهر بالفعل من خلال إشراك رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك في زيارة كييف وفي المحادثات الأوروبية مع ترامب. ويرى الخبراء أن منح بولندا دورًا أكبر هو أفضل سبيل لتوحيد القارة في مواجهة التحديات الحالية.