مع اقتراب دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتجنب إنهاء حربه ضد الغرب وهو ما يتضح من تصعيدات وتطورات مؤخرًا. ومنذ سنوات، نسج بوتين بقاءه السياسي على خيط واحد وهو الاستمرار في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وبالنسبة له، الحرب لم تعد مجرد معركة على الأرض الأوكرانية، بل أصبحت أداة لترسيخ صورته كقائد لا يتزحزح في وجه “الغرب الجماعي”.
وخلال الأسبوع الماضي، حلقت ما لا يقل عن 19 طائرة مسيّرة روسية في الأجواء البولندية. ولم يكن هذا التوغّل حادثًا عرضيًا بقدر ما كان رسالة سياسية واضحة مفادها أن الكرملين لا ينوي وقف الحرب أو التراجع عن خط المواجهة مع الغرب. وجاء الهجوم امتدادًا لسلسلة ضربات جوية عنيفة داخل أوكرانيا خلال الأسابيع الماضية، أودت بحياة عشرات المدنيين، وأصابت مقارًا دبلوماسية أوروبية وبريطانية، ووصلت لأول مرة إلى مبنى حكومي وسط كييف.
يرى المحلل الروسي نيكولاي بتروف، من مركز “نيو أوراسيا” في لندن، أن بوتين قيّد نفسه بدور واحد وهو “رئيس حرب”. فبعد أن صوّر نفسه زعيمًا يقود روسيا في معركة وجودية، فإن أي عودة إلى وضع طبيعي ستُفسر داخليًا على أنها خسارة أو تراجع. ويقول بتروف: “مهما كانت الظروف، بوتين لا يستطيع التخلي عن هذا الدور”.
ومع دخول الحرب عامها الرابع، يرى الكرملين أن الظروف تميل لصالحه أكثر من أي وقت منذ بداية الغزو في فبراير 2022. فيما يعاني الجيش الأوكراني نقصًا حادًا في الأسلحة والجنود، بينما تواصل القوات الروسية التقدم ببطء، وإن كان مكلفًا بشريًا واقتصاديًا. وتشير التقديرات إلى أن خسائر موسكو البشرية تجاوزت المليون قتيل، فيما يتعرض الاقتصاد الروسي لضغوط تهدد بانكماش حاد.
ويقول بتروف إن إيقاف الحرب من الناحية السياسية ليس خيارًا آمنًا لبوتين. فالمعارضة الليبرالية داخل روسيا تم إقصاؤها أو تهميشها، لكن الخطر يأتي من القوميين المتشددين الذين يرفعون سقف التوقعات إلى مستوى مواجهة مباشرة مع الغرب، لا مع كييف وحدها. هؤلاء ينتظرون “نصرًا تاريخيًا”، وهو ما يدفع بوتين إلى مواصلة التصعيد مهما كانت الكلفة.
بدوره، يصف الدبلوماسي السابق ألكسندر باونوف، من مركز كارنيغي لروسيا وأوراسيا، الهدف النهائي لهذه الدائرة المتشددة قائلاً: “الرغبة هي تقويض حلف الناتو، وإظهار أنه بلا قيمة”.
اعتبر باونوف أنه حتى اللقاء الأخير بين بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ألاسكا، والذي وصف بأنه محاولة لبحث وقف إطلاق النار، لم يغير شيئًا من النهج الروسي. على العكس، اتجهت موسكو لتوسيع عملياتها الهجينة ضد أوروبا، إذ واصلت الطائرات المسيّرة اختراق الأجواء البولندية انطلاقًا من بيلاروسيا، بعضها دار فوق مدن بولندية قبل العودة، وأخرى كانت متجهة نحو قاعدة للناتو قبل أن تعترضها مقاتلات هولندية من طراز إف-35.
وفي أغسطس الماضي، تحطمت مسيّرة روسية على بعد 100 كيلومتر فقط من وارسو. وقبل أيام من الحادث الأخير، نشر دميتري ميدفيديف مقالًا يهدد فيه فنلندا بالزوال الكامل إذا دخلت في مواجهة مع موسكو، في خطاب ذكّر المراقبين بنبرة الكرملين التي سبقت غزو أوكرانيا. وإلى جانب العمليات الميدانية، تنقل روسيا صناعات استراتيجية، مثل بناء السفن، إلى مناطق شرقية بعيدة عن حدود الناتو. كما أطلقت مناورات عسكرية ضخمة مع بيلاروسيا شملت الحدود البولندية. هذه التحركات، بحسب المحللين، تهدف إلى إظهار أن موسكو تستعد لمواجهة طويلة الأمد، وليست في وارد الانسحاب أو التهدئة.
يرى الباحث كيريل روغوف أن التوغلات الجوية في بولندا تمثل تحذيرًا مباشرًا لترامب والقادة الأوروبيين الذين يناقشون احتمال تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا. والرسالة –كما يقول– هي أن روسيا قادرة على ضرب الناتو في عقر داره، حتى من دون مواجهة مفتوحة. ويضيف روغوف أن ارتباك الموقف الأمريكي يمنح بوتين مساحة أكبر للمناورة، خاصة أن ترامب يرسل إشارات متناقضة حول التزامه بحلف الناتو وصرامته في فرض العقوبات على روسيا. هذه المرونة تدفع الكرملين للاعتقاد بأن بإمكانه الإفلات من المحاسبة.
أما باونوف فيلخص الاستراتيجية الروسية بعبارة واحدة: “الآن أو أبدًا”. فموسكو، برأيه، تراهن على إظهار الناتو كتحالف عاجز من خلال هجمات صغيرة ومتكررة، تجعل الحلف يبدو كـ”نمر بلا أنياب”. من جانبه نفى الكرملين أن تكون المسيّرات التي دخلت بولندا جزءًا من استفزاز متعمد. فيما قالت وزارة الدفاع الروسية إنها لم تكن تستهدف مواقع في بولندا، بينما بررت بيلاروسيا ما حدث بأنه ربما كان نتيجة “تشويش إلكتروني”.
لكن روغوف يرى أن هذه الضبابية ليست صدفة، بل أسلوب متعمد يستخدمه بوتين لإبقاء خصومه في حالة ارتباك وإرسال رسالة مفادها أنه لا يمكن الجزم إن كانت التحركات الروسية مقصودة أم عرضية، وهو ما يمنح موسكو مساحة أكبر للاستفزاز من دون دفع ثمن مباشر.