باقتراب موسم الحج كل عام، تشهد الكعبة المشرفة إجراءً سنويًا مألوفًا يُعرف بـ”تشمير الكسوة”، حيث يُرفع الجزء السفلي من ستارها الأسود المهيب، المصنوع من الحرير والمزدان بآيات قرآنية، استعدادًا لاستقبال وفود الرحمن.
هذتا التقليد، الذي جرت العادة أن يتم في منتصف شهر ذي القعدة، ليست جزءًا من مناسك الحج التعبدية، بل هي تقليد راسخ له أبعاد عملية وتاريخية عميقة، يهدف في المقام الأول إلى حماية الكسوة وتسهيل حركة الطائفين.
في العصر الحالي، وبإشراف مباشر من الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، يتم رفع ثوب الكعبة المشرفة بعناية فائقة بمقدار ثلاثة أمتار عن مستوى الأرض. ويُغطى الجزء الذي تم كشفه من جدار الكعبة بقماش أبيض ناصع من القطن، يبلغ عرضه مترين ونصف المتر ويمتد ليحيط بجوانبها الأربعة بطول إجمالي يصل إلى 54 مترًا.
وتُنفذ هذه المهمة الدقيقة على أيدي فرق عمل سعودية مؤهلة وذات خبرة فنية عالية، مستعينة بأحدث الآليات والمعدات التي وفرتها الحكومة السعودية لضمان إتمام العمل بكفاءة وفي وقت قياسي. ويعكس هذا الجهد المنظم مدى الإجلال والاهتمام الفائق الذي توليه القيادة في المملكة لبيت الله الحرام، وسعيها الدؤوب لتيسير شؤون قاصديه.
الهدف الأساسي من هذا الإجراء في وقتنا الحاضر هي صون كسوة الكعبة الثمينة من أي تلف أو تمزق قد ينجم عن الازدحام الشديد المتوقع خلال موسم الحج، بالإضافة إلى منع بعض الممارسات الخاطئة من قِبل بعض الزوار الذين قد يحاولون اقتطاع أجزاء من الستار بغرض التبرك أو الاحتفاظ بها كذكرى. وتاريخيًا، كان لـ”إحرام الكعبة”، كما يُطلق عليه شعبيًا، دلالات إضافية؛ ففي العصور الإسلامية المبكرة، اعتُبر رفع الستار بمثابة إيذان بدخول موسم الحج واستعداد لاستقبال الحجيج القادمين من كل حدب وصوب.
وتشير مصادر تاريخية متعددة إلى أن جذور هذه العادة قديمة، حيث يرجعها البعض إلى صدر الإسلام، بينما تنسبها روايات أخرى إلى العصر العباسي، حين كان يُكشف عن جزء من جدار الكعبة ليظهر أسفله ستار أبيض مشابه لملابس الإحرام التي يرتديها الحجاج. وقد وثّق رحالة ومؤرخون كابن جبير وابن بطوطة هذا التقليد في القرنين السابع والثامن الهجريين، واصفين كيفية رفع أستار الكعبة في أواخر شهر ذي القعدة بمقدار قامة ونصف تقريبًا.
إن هذا الاهتمام المتواصل برفع كسوة الكعبة وحمايتها، والذي يشمل أيضًا أعمال الترميم والصيانة والتطوير المستمرة لبيت الله الحرام وبنيانه، هو جزء لا يتجزأ من منظومة الرعاية الشاملة التي حظيت بها الكعبة المشرفة على مر العصور الإسلامية. وتواصل المملكة هذا النهج القويم منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – وحتى العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله -، باذلةً أقصى الجهود لخدمة الحرمين الشريفين وتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن.
وتجسد هذه الأعمال، بما فيها تقليد رفع الكسوة، مظهرًا من مظاهر تعظيم شعائر الله التي أمر بها القرآن الكريم: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). كما تعكس المكانة السامية للكعبة في أفئدة المسلمين وإجلالهم لها، وتندرج ضمن سلسلة متكاملة من التجهيزات والمشاريع الحيوية التي تنفذها المملكة لضمان راحة الحجاج وأمنهم، وتهيئة الأجواء الروحانية اللازمة لأداء مناسكهم بكل يسر وسكينة واطمئنان.