ماذا تفعل الرحلات الطويلة بأجسادنا؟

أكتوبر ٣١, ٢٠٢٥

شارك المقال

ماذا تفعل الرحلات الطويلة بأجسادنا؟

في اللحظة التي تُغلق فيها أبواب الطائرة، ويبدأ المحرك في الهدير، لا يدرك كثيرون أن الرحلة الجوية الطويلة ليست مجرد انتقال بين قارتين، بل اختبار فسيولوجي للجسد البشري.

منذ التسعينيات، تقلصت المسافة بين المقاعد بينما زاد زمن الطيران، وبينما تتباهى شركات الطيران برحلاتها «الأطول في العالم»، تتكشّف تحديات جديدة تمسّ الجسد والذهن معًا، فالمسافر الذي يهبط في مطار آخر القارات لا يحمل فقط إرهاق الساعات، بل آثار معركة صامتة خاضها جهازه التنفسي والهضمي والدوري ضد بيئة الطائرة.

فعشرون ساعة في الجو، كما في الرحلة المنتظرة بين سيدني ولندن التي تعتزم شركة «كانتاس» إطلاقها أواخر العام الجاري، تعني أن الإنسان سيعيش دورة كاملة من التغيّرات الحيوية داخل مقصورة مضغوطة، وجافة، ومحدودة الحركة، ومختلفة كليًا عن أي بيئة أخرى على الأرض.

الجفاف أول الأعراض

يقول الطبيب «مايكل ج. مانيـاك»، المتخصص في طب البعثات وعضو «نادي المستكشفين»، إن نحو نصف هواء المقصورة يأتي من الخارج على ارتفاعات عالية وجافة جدًا، ما يجعل الرطوبة داخل الطائرة أقل بكثير من المعتاد على الأرض. ويضيف: «المناطق المخاطية في الفم والأنف والعينين تجف سريعًا. هذا ليس شعورًا عابرًا، بل فقدان فعلي للتزييت الطبيعي في أنظمة الجسم».

لكن شرب كميات كافية قبل الإقلاع وأثناء الرحلة لا يحافظ فقط على الترطيب، بل يحسّن الدورة الدموية ويخفف التوتر العضلي.

الجفاف، بالمناسبة، لا يقف وحده، فالتغيرات في ضغط الهواء أثناء الإقلاع والهبوط تغيّر توزيع الهواء في الجيوب الأنفية والأذنين. وتوضح الطبيبة «لالِه جاراهباجيان»، أستاذة طب الطوارئ بجامعة ستانفورد، أن هذه التغيرات قد تسبّب ألمًا حادًا لدى من يعانون أمراض الجيوب الأنفية، لكنها تظهر لدى الآخرين فقط كـ«أذن تحتاج إلى الفرقعة».

وتوصي جاراهباجيان بتناول مزيل احتقان قبل الرحلة وشرب الماء وتناول مضادات الالتهاب عند الإصابة بنزلة برد.

العضلات تحت الحصار

حين تظل جالسًا في وضعية واحدة لساعات، تبدأ عضلاتك بالتقلص، ويقول الخبراء إن السبب ليس «التعب» بقدر ما هو انقباض مستمر في العضلات دون حركة كافية لتفريغ الشدّ أو تحريك الدورة الدموية، الأمر الذي يؤدي إلى تيبّس في الظهر والرقبة وأحيانًا الفخذين.

الخبر السار أن الحل بسيط، فتحريك الجسد كل ساعة، فالمشي في الممر، أو حتى رفع الكعبين أثناء الجلوس، يحافظ على نشاط العضلات ويمنع الالتهاب. ويضيف الطبيب «كيفن ليس»، مدير العمليات في «ذا جوينت كايروبراكتيك»، أن «الجلوس المطول يضغط على الأقراص بين الفقرات، خصوصًا في أسفل الظهر»، ما يجعل أي إصابة سابقة أسوأ بعد الرحلة.

الجهاز الهضمي يتباطأ

من يقلّل من أهمية الحركة، عليه أن يتذكر أن الأمعاء تحتاج إليها أيضًا. يقول مانيـاك: «حين تكون خاملاً، يتباطأ تحريك الطعام في الأمعاء. لهذا نحرص بعد العمليات الجراحية على جعل المرضى يمشون سريعًا لتحسين الدورة الدموية والتئام الجروح».

الجلوس المنحني قد يسبب ارتجاعًا معديًا أو غثيانًا طفيفًا. ويشير ليس إلى أن «وضعية الانحناء تضغط على المعدة وتقلل تدفق الهواء إلى الرئتين، ما يبطئ التنفس ويقلل الأوكسجين في الدم».
تلك الحالة قد تفسّر الشعور بالضباب الذهني والدوار الذي يرافق البعض بعد الهبوط، حتى دون أن يكونوا مصابين بدوار الحركة.

الخطر الأكبر

لكن التحدي الأهم في الرحلات الطويلة هو «الخطر الذي لا يُرى»: الجلطات الدموية العميقة. فحين يبقى المسافر ساكنًا لساعات طويلة، قد تتكوّن جلطة في أوردة الساقين. وإن انتقلت إلى الرئتين، تتحول إلى انسداد رئوي قاتل.

تحذّر جاراهباجيان: «أسوأ ما يمكن أن يحدث هو تجلط وريدي عميق. إن تحرّكت الجلطة نحو الرئتين، يصبح الموقف مهددًا للحياة».

تبدأ الأعراض بتورّم أو ألم في ساق واحدة، ويشرح مانيـاك أن الألم ناتج عن «انحباس الدم وعدم قدرته على العودة إلى القلب، ما يؤدي إلى انتفاخ الأوردة».

ويضيف أن وجود تاريخ عائلي للجلطات، أو أمراض القلب، أو استخدام حبوب منع الحمل، أو الحمل نفسه، كلها عوامل تزيد المخاطر. بعد أن أصيب هو شخصيًا بجلطة إثر رحلة دولية، اكتشف أنه يحمل اضطرابًا وراثيًا في تجلّط الدم.

ويقترح الطبيب أنه للوقاية يمكن المشي في الممر كل ساعة، القيام بحركات القدمين، وارتداء جوارب ضاغطة تساعد في تحسين تدفق الدم ومنع تجمعه في الأطراف.

بين الأمان والتعب

رغم كل ذلك، لا يرى الخبراء في الطيران الطويل خطرًا دائمًا على الأصحاء. يقول مانيـاك: «عمومًا، الطيران آمن للجميع. المشاكل تظهر فقط حين توجد حالة مرضية مسبقة».

في النهاية، لا شيء يفسد متعة السفر مثل جسد متعب لا يتنفس جيدًا، ولا يهضم بسهولة، ويئن من الجفاف أو التورم. وفي حين تكشف الرحلات الطويلة هشاشتنا البيولوجية أمام بيئة اصطناعية، فإنها تذكّرنا أيضًا بأن أجسادنا مصممة للحركة حتى على ارتفاع 35 ألف قدم.

الأكثر مشاهدة

أحصل على أهم الأخبار مباشرةً في بريدك


logo alelm

© العلم. جميع الحقوق محفوظة

Powered by Trend'Tech