يحتل الكروم مكانة فريدة بين المعادن، فهو يُصنَّف رسميًا كمغذٍّ ضروري لصحة الإنسان، ومع ذلك لم يثبت العلم حتى اليوم أن له أي دور فعلي في بقاء الجسم سليمًا أو في أداء أي وظيفة حيوية معروفة. هذه المفارقة جعلت الكروم أحد أكثر العناصر غموضًا في علم التغذية، إذ يُعامل كعنصر لا غنى عنه رغم غياب أي دليل حقيقي على نفعه.
وفي صورته الكيميائية المسماة الكروم ثلاثي التكافؤ، يدخل هذا العنصر ضمن بعض مكملات الفيتامينات والمعادن المتداولة في الأسواق. وتزعم الشركات المنتجة أنه يساهم في تحسين الأداء البدني، ويساعد على ضبط مستويات السكر في الدم.
وبحسب أستاذ متخصص في الكيمياء الحيوية تحدث إلى موقع “Science Alert” فإن أكثر من ثمانين عامًا من البحث العلمي لم تبرهن على وجود فائدة حقيقية أو تأثير ملموس للكروم على صحة الإنسان. وذلك رغم أن الجهات الصحية في الولايات المتحدة وغيرها تُدرجه ضمن المغذيات الأساسية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف تحوّل عنصر بلا دور واضح إلى عنصر يُعد “ضروريًا؟”.
لضمان بقاء الجسم في حالة صحية جيدة، يحتاج الإنسان إلى مجموعة من المعادن تُعرف بالعناصر النزرة، أي تلك التي يحتاجها الجسم بكميات صغيرة جدًا. ومن أبرزها الحديد، والزنك، والمنغنيز، والنحاس، والكوبالت. ورغم ضآلة الكمية المطلوبة منها، إلا أن وجودها ضروري لعمل أجهزة الجسم بدقة وتوازن. وأثبتت العقود الماضية أن هذه المعادن أساسية لكل الكائنات الحية تقريبًا. فمثلًا، الحديد عنصر لا غنى عنه في إنتاج الهيموغلوبين المسؤول عن نقل الأوكسجين عبر الدم، كما تعتمد مئات الإنزيمات والبروتينات الحيوية على الحديد كي تؤدي تفاعلاتها الأساسية.
وعندما ينخفض مستوى الحديد، يصاب الإنسان بفقر الدم، فيعاني من الإرهاق، والضعف العام، والدوخة، وتتكسر أظافره بسهولة. وغالبًا ما تؤدي مكملات الحديد إلى تحسُّن الأعراض سريعًا. وقد تمكن العلماء من فهم الآليات الدقيقة التي تجعل الحديد عنصرًا محوريًا في الكيمياء الحيوية للكائنات، مما يبرر تمامًا وصفه بـ“الضروري”. لكن هذه الصورة الواضحة لا تنطبق على الكروم.
على عكس الحديد، لا توجد شواهد علمية قوية على أن الكروم يؤدي وظيفة حيوية في الجسم. فحالات نقص الكروم تكاد تكون منعدمة، ولم يتم توثيق أي مرض محدد يرتبط بانخفاض مستوياته. وحتى حين يتناول الإنسان الكروم عبر الطعام، فإن الجسم لا يمتص سوى نحو 1٪ فقط من الكمية المتناولة، بينما تمتص الأمعاء معادن أخرى، مثل الحديد، بنسبة تصل إلى 25٪ في بعض الحالات.
والأكثر إثارة أن العلماء لم يجدوا حتى الآن أي بروتين يعتمد على الكروم لأداء وظيفة بيولوجية ضرورية. فالبروتين الوحيد المعروف بارتباطه بالكروم يُعتقد أنه يشارك في طرد المعدن من الدم عن طريق الكليتين، لا في استخدامه. وقد لُوحظ في بعض الدراسات أن الكروم قد يكون له ارتباط بسيط بعملية تنظيم الجلوكوز في الدم، لكنّ نتائج الأبحاث التي درست مكملاته جاءت غير حاسمة، إذ لم تُثبت أي قدرة ملموسة له على تحسين استجابة الجسم للسكر أو تعزيز استقلاب الجلوكوز. ومن ثم، لا يوجد حتى الآن أي أساس علمي يُثبت أن الإنسان، أو أي كائن آخر، يحتاج فعلًا إلى الكروم من أجل وظيفة حيوية محددة.
ترجع جذور هذا الاعتقاد إلى خمسينيات القرن الماضي، وهي فترة كان فيها علم التغذية في بداياته، ولم يكن العلماء يعرفون سوى القليل عن المعادن الدقيقة الضرورية. وفي إحدى الدراسات الشهيرة آنذاك، تم إطعام فئران بنظام غذائي تسبب في ظهور أعراض مشابهة لمرض السكري من النوع الثاني. وعندما أُضيف الكروم إلى غذائها، لاحظ الباحثون تحسنًا واضحًا في حالتها، فاستنتجوا أن الكروم قد يكون علاجًا محتملًا لاضطرابات السكر. وتلقفت الأوساط الطبية والإعلامية تلك النتائج بحماس، وانتشرت فكرة أن الكروم يساعد على ضبط مستويات السكر في الدم.
لكن هذه التجارب القديمة، إذا قورنت بمعايير البحث العلمي الحالية، تُعد ضعيفة جدًا. فلم تتضمن تحليلات إحصائية دقيقة، ولا قياسات واضحة لمحتوى الكروم في الأنظمة الغذائية التي استخدمت. وبالتالي، قد تكون النتائج مجرد مصادفة لا أكثر. أما الدراسات التي أجريت لاحقًا باستخدام أساليب أكثر صرامة، فقد أظهرت نتائج متناقضة؛ فبعضها لاحظ تحسنًا طفيفًا في مستويات السكر لدى الفئران التي تناولت الكروم، بينما لم تجد دراسات أخرى أي فرق يُذكر. وفي كل الأحوال، فإن الفئران التي لم تحصل على الكروم بدت بصحة طبيعية تمامًا.
وفي الأبحاث التي أجريت على البشر، ازدادت الصعوبة في ضبط العوامل المؤثرة، فكانت النتائج بدورها غامضة، وإن وُجد تأثير للكروم، فهو طفيف جدًا ولا يحمل قيمة طبية واضحة.
رغم غياب الأدلة القاطعة على أهميته، لا تزال بعض المؤسسات الصحية تعتبر الكروم عنصرًا يُوصى بتناوله ضمن الحدود الغذائية اليومية. ويُعزى ذلك إلى تقرير صدر عام 2001 عن لجنة المغذيات الدقيقة التابعة للمعهد الوطني للطب في الولايات المتحدة، والتي تضم نخبة من علماء التغذية والطب. وقد طُلب من اللجنة آنذاك تحديد المستويات “الكافية” من الفيتامينات والمعادن استنادًا إلى ما هو متوفر من الأبحاث، لا إلى اليقين العلمي التام.
وبناءً على تقديرات استهلاك الأمريكيين العاديين، أوصت اللجنة بأن يحصل البالغون على نحو 30 ميكروغرامًا من الكروم يوميًا، رغم إقرارها بأن الأدلة على فائدته ضعيفة أو غير موجودة. والمفارقة أن جزءًا كبيرًا من الكروم الذي يحصل عليه الناس يأتي من أدوات الطهي المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ أو من معدات تجهيز الطعام، وليس من الغذاء نفسه. لذلك، ومع أن مكملات الكروم لا تبدو ضارة على نحو مؤكد، إلا أن احتمالات فائدتها الصحية تكاد تكون معدومة أيضًا.
اقرأ أيضًا: