ماذا لو كان التعب الذي تظنه إرهاق عمل، أو الارتجاف الخفيف الذي ترده إلى القهوة، أو ضباب الدماغ الذي تعتقده من قلة النوم، إشارةً صامتة إلى خلل في غدة صغيرة أسفل عنقك؟
المفارقة أن الغدة الدرقية، رغم حجمها الضئيل، تتحكم بإيقاع الجسد كله، ومع ذلك تفلت اضطراباتها من الانتباه في كثير من الأحيان.
ما الغدة الدرقية ولماذا تؤثر في كل مكان؟
تستقر الغدة الدرقية تحت تفاحة آدم، في شكل يشبه الفراشةK لكنها، كما يوضح الأطباء، تضبط حرارة الجسد، وتتحكم بالنبض، وتؤثر في الهضم والعظام والدماغ.
تقول الطبيبة مارلين تان من «ستانفورد هيلث كير»، إن «الغدة تصنع وتخزن وتفرز هرمونات تنظم معدل استخدام الخلايا للأكسجين والطاقة». أي خلل في هذا التوازن يشبه الضغط الزائد أو الضعيف على «مكبح المحرك».
عندما يفرز الجسم هرمونات أكثر من اللازم، يندفع الإيقاع بسرعة غير طبيعية فيما يُعرف بفرط نشاط الغدة، فتظهر أعراض مثل الأرق، تسارع القلب، وفقدان الوزن غير المبرر. أما في قصور الغدة، فينخفض الإيقاع إلى بطء مرهق، حيث يعاني المصاب من الخمول وزيادة الوزن ومشاكل في التركيز.
تقول الطبيبة جودي فوكس ميلول من «إنسبيرا هيلث»، إن «الأعراض تتسلل إلى حياتك اليومية وتُفسَّر غالبًا على أنها توتر أو تقدم في السن أو مجرد انشغال».
من بين العلامات التي قد لا تُؤخذ بجدية: صعوبة النوم ليلًا، والقلق غير المبرر، ورعشة خفيفة في اليد عند رفع كوب قهوة، أو حتى تغيّر طفيف في الشهية والوزن.
بحسب «الجمعية الأمريكية للغدة الدرقية»، فإن 60% من المصابين لا يعرفون أنهم مرضى، ذلك أن الأعراض متشعبة وتتشابه مع أمراض أخرى مثل الاكتئاب أو الإرهاق المزمن.
المشكلة ليست فقط في التعب أو تغيّر المزاج، بل في المضاعفات الصامتة. يؤكد الأطباء أن إهمال اضطرابات الغدة قد يقود إلى أمراض قلبية، هشاشة العظام، مشاكل في الخصوبة، وحتى تدهور إدراكي مبكر.
تشير دراسة حديثة في 2024 إلى ارتباط فرط نشاط الغدة بزيادة خطر الإصابة بمرض ألزهايمر، حتى في الحالات «الخفيفة». «التغييرات الطفيفة في الهرمونات قد تُضعف الذاكرة والتركيز قبل سنوات من تشخيص الخرف»، تقول الطبيبة رافالي فيراماتشانيني من «كليفلاند كلينيك».
الطريق إلى الاكتشاف أبسط مما يظن كثيرون، تقول تان إن «غالبية اضطرابات الغدة يمكن رصدها بفحص دم روتيني»، وفي حال وجود تضخم أو أعراض مقلقة، قد يطلب الطبيب فحصًا بالأشعة.
لكن هذه الخطوة لا تأتي إلا بعد وعي المريض وقراره باللجوء إلى الفحص، لذلك يوصي الخبراء بالبدء بالفحص عند سن 35 وتكراره كل خمس سنوات.
الخبر الجيد أن العلاج متاح وفعال، فالأدوية المنظمة للهرمونات أو العلاج باليود المشع أو حتى الجراحة في بعض الحالات، كلها وسائل تساعد على إعادة التوازن.
يروي الطبيب جوزيبي بربيسينو من «ماساتشوستس جنرال هوسبيتال»، أنه «من المجزي أن ترى شابة عانت أشهرًا من أعراض غامضة تعود إلى طبيعتها بعد أسابيع قليلة من العلاج المناسب».
لكن على الجانب الآخر، يحذر من ضياع الفرصة: «من المحبط أن تصلنا حالات متقدمة مثل مريض مسن أصيب برجفان أذيني دائم، كان يمكن منعه لو شُخّص قصور الغدة مبكرًا».
تتوزع العلامات في صورة فسيفساء تحتاج إلى وعي وربط بين الأعراض، ما بين قلق مزمن، وفقدان وزن غير مبرر، وتعرق زائد، ورعشة دقيقة في الأصابع، أو حتى انتفاخ في قاعدة العنق.
عند النساء، قد يظهر في شكل اضطراب الدورة أو صعوبات في الحمل، أما العينان، فقد تكشفان سرًا آخر، جحوظ أو انتفاخ أو تشوش في الرؤية.
يبدو أن الغدة الدرقية، رغم خفائها، تترك بصمتها على كل خلية في الجسد، وتجاهل إشاراتها قد يفتح الباب لمضاعفات لا عودة عنها، بينما الإصغاء إليها عبر فحص بسيط قد يحمي القلب والعظام والذاكرة. وكما تقول فيراماتشانيني: «لا تتجاهل حدسك إذا شعرت أن شيئًا ليس على ما يرام. فمحادثة قصيرة وفحص دم قد يغيّران حياتك».