منذ قرون، كانت دمشق مركزًا محوريًا لانطلاق قوافل الحج، حيث تجتمع الحشود القادمة من مختلف أنحاء آسيا، أوروبا، والشام، لتبدأ رحلة طويلة محفوفة بالتحديات إلى مكة، عبر صحارى ووديان صعبة.
ففي الماضي، كانت وسائل النقل محدودة، تعتمد على الجمال والحمير، وكان السفر يمتد لأشهر قبل الوصول إلى بيت الله الحرام، مع مواجهة حرارة الطقس وصعوبة الطرق. ولكن اليوم، اختصرت وسائل النقل الحديثة من فترة الرحلة، ولكن ذاكرة محمل الحج الدمشقي لا تزال حية في التراث الدمشقي.
تجهيز المحمل الدمشقي
كان المحمل عبارة عن هيكل خشبي مزين على ظهر جمل قوي، يحوي داخله نسختين من القرآن الكريم، ويُعتبر رمزًا للسلطة والهيبة، ولا يُستخدم للركوب أو نقل الأمتعة. وتبدأ طقوس المحمل في دمشق مع بداية عيد الفطر بمراسم "الزيت والشمع"، حيث يتجمع الأهالي والفرق العسكرية أمام الجامع الأموي في صفوف، ويقدم السكان الشموع وماء الورد والزيوت والحلوى المحشوة بالجوز كهدية للحرمين. بعد ذلك يأتي يوم رفع الراية أو "السنجق"، وتتم جولة المحمل في أحياء دمشق، بدءًا من الميدان وباب نصر وصولًا إلى جامع العسالي، حيث يُحتفظ به عشرة أيام لتجمع الحجاج.
وقُدرت أعداد الحجاج في المحمل في هذا الوقت ما بين 20 و40 ألف حاج، وكان يختلف طبقًا للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد تضاعف العدد في بعض السنوات بعد الأزمات أو الحروب كنوع من الشكر لله على النجاة. وكانت بعض العائلات الدمشقية تشارك في تنظيم الرحلة مثل آل سعد الدين، التي كانت توفر الجمال المخصصة لنقل المحمل، بينما يعتني السقاة بتوفير المياه، ويقود العكامة الدواب، ويسهر البراكون على نقل الحجاج، فيما يعتني أصحاب المشاعل والخيام بتوفير الإضاءة والمأوى.
حلب.. مركز للحجاج من كل صوب
ولم تكن دمشق وحدها، بل كانت حلب تلعب دورًا مماثلًا كمحطة رئيسية لاستقبال الحجاج القادمين من الغرب وتركيا والبلقان، حيث تتجمع الوفود في الجامع الأموي أو حي الحاضر السليماني قبل الانطلاق إلى دمشق للالتحاق بالقافلة الشامية. وقد وصفت المصادر التاريخية كيف كان الرحالة ابن جبير في القرن الثاني عشر الهجري يبدأ رحلته من البيرة في إسبانيا وصولًا إلى حلب، لتجهيز مستلزمات الحجاج، قبل الانتقال إلى المدينة المنورة ومكة.
وكانت دمشق بمثابة خلية نحل، حيث عمل الحرفيون والعمال على تجهيز كل ما يحتاجه الحجاج القادمون من الأناضول، بلاد الترك، البلقان، والجزيرة. واحتفظت المدينة بلقب "الشام الشريف" نظرًا لما وفرته من أمان ومواكبة لقوافل الحج، وضمان تنقل الحجاج بكل أمان. وتوضع سنجق الحج تحت قبة النسر في الجامع الأموي، ليكون إشارة لانطلاق القافلة، ويشارك في الموكب العلماء والأئمة وأصحاب الحرف، مع فرق لتنظيم النقل، الخيام، المشاعل والطعام، لضمان راحة الحجاج وتأمين سلامتهم.
رحلة محمل الحج الشامي
كانت رحلة المحمل عادة تبدأ بعد عيد الفطر، حيث يحمل معها الزيت اللازم لإنارة الحرمين، وماء الزهر والورد لتعطير الطرق والحرمين، بينما يقف الأهالي على الأسطح والطرقات يودعون الحجاج بالتهليل والتكبير، في مشهد يمزج الاحتفال الديني بالمشاركة المجتمعية. وقد كانت رحلة القافلة تستغرق نحو 40 يومًا من دمشق إلى المدينة المنورة، وعشرة أيام للوصول إلى مكة وأداء المناسك، لتستغرق رحلة الحاج نحو خمسين يومًا في المتوسط.
ولم يكن المحمل الشامي مجرد وسيلة نقل، بل كان رمزًا للسلطة وحماية الحجاج، حيث كان والي دمشق، المكلف من السلطان العثماني، يقود القافلة بنفسه ويضمن سلامتها من هجمات البدو، وهي مهمة تعد من أخطر المسؤوليات. ووفق المؤرخين، استمر تقليد المحمل عبر العصور، بما في ذلك فترة المماليك والفاطميين، حتى تم استخدام وسائل النقل الحديثة، من القطارات والحافلات وصولاً إلى الطائرات، ولكن ظل الحفاظ على الاحتفال الرمزي والمحافظة على التراث.
اقرأ أيضًا:
أمن حج 1446هـ.. تنظيم ودقة في كل خطوة
إنفوجرافيك| مبادرات وتقنيات متكاملة لضمان موسم حج ناجح
من "نسك" إلى "الدرون".. تكامل حكومي شامل لتجربة حج ميسّرة وآمنة














