تتبع المملكة استراتيجية جديدة منبثقة من رؤية السعودية 2030 تتضمن خطة للتحول الصناعي بهدف رسم ملامح الاقتصاد الجديد القائم على تنويع مصادر الدخل بجانب النفط الذي شكّل لعقود من الزمن عصب الاقتصاد الوطني.
وسعيًا لتحقيق التحول الصناعي بأفضل طريقة، تعمل المملكة على تأسيس قاعدة صناعية متينة بوصلتها توطين الصناعات الاستراتيجية المتقدمة وتنقل المعرفة وتعزز الابتكار عن طريق بنية تحتية ذكية ومتطورة.
تقود وزارة الصناعة والثروة المعدنية خطة التحول الصناعي في المملكة من خلال منظومة صناعية شاملة يتُبنى على مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي تعد المحرك الأساسي للنهضة الصناعية السعودية، التي ظهرت ملامحها جلية في المدن الصناعية والتجمعات المتخصصة المتقدمة في مختلف مناطق المملكة، حيث تركز تلك المدن والتجمعات على قطاعات حيوية كصناعة الطيران، والسيارات، والصناعات الغذائية، والصناعات التعدينية، والبتروكيماويات.
وبنهاية عام 2024، بلغ عدد المدن الصناعية في المملكة 40 مدينة، إلى جانب 12 ألف مصنع، وتستهدف المملكة أن يصل العدد إلى 36 ألف مصنع بحلول عام 2035. ولا تقتصر مستهدفات هذه المدن والتجمعات على التصنيع والإنتاج، بل تعد نواة لمراكز اقتصادية قائمة على الربط الذكي بين مواقع التصنيع والأسواق المحلية والعالمية عبر شبكة من الموانئ الحديثة، وخطوط السكك الحديدية، والطرق البرية المتطورة. وخلال الفترة الماضية، عملت المملكة على ضخ استثمارات نوعية لتطوير بنية تحتية متكاملة قوية، تمثلت في بناء مدن صناعية وتجمعات متخصصة، تستهدف رفع القيمة المضافة في الصناعة الوطنية، وتوطين تقنيات التصنيع المتقدمة.
تبرز في المملكة العديد من المدن الصناعية منها مدينتا الجبيل وينبع الصناعيتان قطبين رئيسين في قطاع البتروكيماويات العالمي، فيما أصبحت مدينة رأس الخير على سواحل الخليج مركزًا محوريًّا للصناعات التعدينية، وتحتضن مجمعًا لمعادن الألومنيوم، يعد أحد أكبر وأشمل المجمعات الصناعية عالميًّا، بالإضافة إلى إنتاج الفوسفات والمعادن الأخرى.
وتوجد مدينة جازان في الجنوب الغربي من المملكة التي تتميز بالصناعات الأساسية والتحويلية بوصفها مركزًا للصناعات الثقيلة والأنشطة كثيفة الاستهلاك للطاقة، إلى جانب الصناعات الغذائية والأنشطة الزراعية. وفي مدينة الملك عبدالله الاقتصادية “KAEC”، يبرز نموذج صناعي فريد يدمج بين التصنيع واللوجستيات، حيث تضم أحد أكثر الموانئ تطورًا في العالم، مما يعزز مكانتها مركزًا للتجارة العالمية.
وتأتي مدينة سدير للصناعة والأعمال باعتبارها منطقة صناعية ولوجستية متخصصة، تستقطب استثمارات مهمة في الصناعات الدوائية والغذائية والتصنيع الخفيف، وتسهم في تطوير سلسلة الإمداد الوطني. كما دشنت المملكة بعض التجمعات الصناعية المتخصصة التي تُعتبر محاور إستراتيجية لتطوير صناعات المستقبل.
وفي جدة، أنشأت المملكة واحة “مدن”، “أيرو بارك الأولى”، التي تُعد أول تجمع متخصص لصناعة وصيانة الطائرات، وتمتد على مساحة 1.2 مليون متر مربع، وتُقام بالتعاون بين وزارة الصناعة والثروة المعدنية، والهيئة العامة للطيران المدني، بهدف توطين التقنيات المتقدمة وتوفير بيئة استثمارية محفزة لصناعة الطيران، عبر منشآت تصنيع حديثة ومراكز بحث وتطوير متقدمة تركز على مكونات الطائرات، وأنظمة الدفاع والتقنيات الفضائية، معززًا بموقع إستراتيجي قريب من مطار الملك عبدالعزيز الدولي وميناء جدة الإسلامي.
تسعى المملكة من خلال تلك الجهود لتحويل البلاد إلى مركز إقليمي وعالمي للنقل الجوي، بقدرة استيعابية تصل إلى 30 مليون مسافر وسعة شحن سنوية تبلغ مليونا طن. هذا بجانب مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية الذي يوفر بيئة متكاملة ومحفزة لتصنيع السيارات التقليدية والكهربائية، عبر توطين التقنيات واستقطاب رواد الصناعة العالميين لإنتاج 300 ألف سيارة سنويًّا في مجمع صناعي واحد.
ويهدف هذا التجمع إلى جعل المملكة لاعبًا رئيسًا في قطاع التنقل المستدام، من خلال شراكات استراتيجية مع كبرى الشركات العالمية لتوطين الإنتاج ونقل التقنيات، وتطوير سلاسل الإمداد بشكل متكامل. كانت المملكة أطلقت مجموعة من التجمعات لصناعة الغذاء لتعزيز الأمن الغذائي والتي تضمنت أكبر تجمع من نوعه في العالم لتصنيع الأغذية بمدينة جدة، يقام على مساحة 11 مليون متر مربع، ويضم 75 مصنعًا بمساحات تصل إلى 107 آلاف متر مربع، ومستودعات ضخمة بمساحة 134 ألف متر مربع.
وأجريت تطويرات على هذا التجمع بلغت استثماراتها 20 مليار ريال كان الهدف منها دعم الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الواردات، إلى جانب خفض التكاليف التشغيلية بنسبة تتراوح بين 5 و12%، بفضل تكامل الخدمات والبنية التحتية المتطورة. ومن بين أهداف التجمع جذب أكثر من 800 مصنع بحلول عام 2035 في 10 أنشطة نوعية ضمن قطاع الصناعات الغذائية، بما يعزز مكانة المملكة في خارطة تصنيع وتصدير الأغذية عالميًّا.
وخلال شهر أبريل الماضي أطلقت الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية “مدن” مجمعًا صناعيًّا للألبان في المدينة الصناعية بالخرج، الذي يمثل خطوة مهمة في تعزيز الأمن الغذائي للمملكة، ويغطي المجمع مساحة مليون متر مربع؛ يشمل مصانع للألبان والأعلاف، ومرافق للتعبئة والتغليف، ووحدات للتخزين، ويوفر المجمع الجديد بيئة إنتاج صناعي مستدامة ومتكاملة تضم مصانع جاهزة ومستودعات للتبريد. ويشكل إنتاج محافظة الخرج من الألبان 70% من إنتاج المملكة، ويُلبي الطلب في الأسواق المحلية والإقليمية.
تلعب الموانئ والسكك الحديدة دورًا كبيرًا في دعم التحول الصناعي، وخصوصًا ميناء جدة الإسلامي وهو أهم منفذ للصادرات والواردات الغذائية، فيما يعزز ميناء الملك عبدالله موقعه في خدمة الصناعات عالية القيمة، ويمثل ميناء رأس الخير منفذًا مهمًا لصادرات المعادن، في حين يخدم ميناء جازان المدينة الصناعية ويسهل الصادرات نحو القارة الأفريقية.
ومن أهم مشروعات السكك الحديدية الأخرى في المملكة يأتي مشروع خط الشمال – الجنوب والذي يربط بين مناطق التعدين بالمدن الصناعية والموانئ، وفي نفس الوقت يتم تجهيز مشروع الجسر البري الذي يُعد من أكثر المشروعات طموحًا، إذ سيربط البحر الأحمر بالخليج العربي، ويعزز من دور المملكة ممرًا رئيسيًا للتجارة الإقليمية والدولية.