من حروب الأسراب للتاكسي الطائر.. كيف ترسم الدرونز مستقبل السماء؟

ديسمبر ٢٩, ٢٠٢٥

شارك المقال

من حروب الأسراب للتاكسي الطائر.. كيف ترسم الدرونز مستقبل السماء؟

لم تعد الطائرات المسيّرة مجرد أدوات مراقبة أو أسلحة في السماء، بل أصبحت مفتاحًا لمستقبل النقل والحروب وحتى الحياة المدنية. من حروب الأسراب التي تجمع مئات المسيرات الصغيرة في مهام مشتركة، إلى التاكسي الطائر الذي قد يغيّر شكل المدن ويخفف الزحام، يبدو أن السماء ستصبح قريبًا ساحة تحكم عن بُعد لكل جانب من جوانب حياتنا. فما الذي يخبّئه المستقبل للطائرات المسيّرة، وكيف ستتغير قواعد اللعبة في السماء؟

تقنية السرب.. الهجوم الجماعي الذكي

تعتمد تقنية أسراب الطائرات المسيّرة على محاكاة سلوك الطيور والنحل في الطبيعة، حيث تعمل مئات الدرونز كوحدة واحدة، تتواصل فيما بينها وتتخذ قرارات جماعية دون الحاجة إلى طيار منفصل لكل طائرة. في هذا النموذج، لا يكون السرب مجرد مجموعة طائرات، بل نظامًا ذكيًا قادرًا على التكيّف والاستمرار في تنفيذ المهمة.

تكمن قوة هذه التقنية في قدرتها على التعويض الذاتي؛ فإذا تم إسقاط إحدى الطائرات، تعيد بقية الدرونز توزيع الأدوار تلقائيًا لسد الفجوة، ما يجعل السرب أكثر مرونة وصعوبة في التعطيل مقارنة بالأنظمة التقليدية.

من أبرز المشاريع التي تقود هذا التوجه، برنامج OFFSET التابع لوكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة الأمريكية (DARPA)، والذي يهدف إلى تشغيل أكثر من 250 طائرة مسيّرة وأنظمة أرضية غير مأهولة في بيئات حضرية معقدة. يتصور البرنامج مستقبلًا تستخدم فيه وحدات مشاة صغيرة أسرابًا من الدرونز لتنفيذ مهام الاستطلاع والدعم والاشتباك في المدن.

يسعى برنامج OFFSET إلى تسريع تطوير تكتيكات الأسراب ونشرها ميدانيًا، من خلال الجمع بين استقلالية السرب والتفاعل البشري الذكي. ولتحقيق ذلك، يعمل المشروع على تطوير واجهات متقدمة للتفاعل بين الإنسان والآلة، تتيح لقائد واحد مراقبة وتوجيه مئات المنصات غير المأهولة في الوقت الحقيقي، بالاعتماد على تقنيات مثل الواقع المعزز والافتراضي، والأوامر الصوتية والإيمائية.

كما يوفر البرنامج بيئة افتراضية متصلة تعمل في الزمن الحقيقي، تُستخدم لاختبار تكتيكات الأسراب في سيناريوهات تحاكي الواقع، بما يسمح بتجربة الأفكار، تقييمها، ثم نقل الأكثر فاعلية منها إلى أرض المعركة. وإلى جانب ذلك، أنشأ OFFSET منصة رقمية لتبادل تكتيكات الأسراب، تشجع التعاون والابتكار بين الباحثين والمطورين.

وعلى مدى سنوات، أُجريت تجارب حية متكررة كل ستة أشهر تقريبًا، مع زيادة تدريجية في تعقيد السيناريوهات، من حيث حجم السرب، ونطاق العمليات، ومدة المهمة، بهدف اختبار قدرة هذه الأنظمة على الصمود والتكيف في ظروف واقعية.

في المقابل، يحذّر باحثون من أن الانتشار المتسارع لأنظمة الأسراب الذكية يمثل تهديدًا متناميًا، خاصة مع تقارب تقنيات الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، وشبكات الجيل الخامس. ويرجّح الخبراء أن تزداد مخاطر الاستخدام غير المشروع لهذه الأسراب، سواء في الهجمات الأمنية أو الإلكترونية، مع صعوبة كبيرة في رصدها أو التصدي لها.

وتشير التقديرات إلى أن مواجهة تهديدات الأسراب الذكية ستكون تحديًا معقدًا، نظرًا لارتفاع كلفة أنظمة الكشف والتشويش، واتساع نطاق الأهداف المحتملة، ما يجعل هذه التقنية أحد أخطر تحولات الحروب الجوية في المستقبل القريب.

الروبوتات القاتلة.. المسيرات ذاتية التحكم بالكامل

تشهد الجيوش حول العالم تحولًا متسارعًا في طريقة استخدام الطائرات المسيّرة، حيث يجري الانتقال تدريجيًا من أنظمة يتحكم بها الإنسان عن بُعد، إلى أسلحة قادرة على اتخاذ قرارات الاشتباك والقتل اعتمادًا على خوارزميات الذكاء الاصطناعي. في هذا الجيل الجديد، لا يكون الإنسان حاضرًا في لحظة إطلاق النار، بل تُترك المهمة بالكامل للآلة.

تُعرف هذه الأنظمة باسم الأسلحة الذاتية التشغيل القاتلة، أو ما يُطلق عليها إعلاميًا "روبوتات القتل". وعلى عكس الطائرات العسكرية المسيّرة التقليدية، التي يتخذ فيها المشغّل البشري قرار إزهاق الأرواح من مركز تحكم بعيد، تقوم الخوارزميات هنا بتحديد الهدف واختياره وتنفيذ الهجوم دون أي تدخل مباشر من الإنسان.

يعمل السلاح الذاتي التشغيل وفق برمجة مسبقة لما يُسمّى "ملف تعريف الهدف". وبعد نشره في ساحة العمليات، يستخدم الذكاء الاصطناعي بيانات المستشعرات، مثل أنظمة التعرف على الصور أو الوجوه، للبحث عن تطابق مع هذا الملف. وعندما ترى الخوارزمية أن الهدف مطابق للمواصفات، تُنفّذ الهجوم تلقائيًا.

هذا التحول يثير جدلًا أخلاقيًا وأمنيًا واسعًا على المستوى الدولي. فمنتقدو هذه التكنولوجيا يرون أن الخوارزميات لا تستطيع إدراك قيمة الحياة البشرية، ولا يمكن منحها سلطة تقرير من يعيش ومن يموت. وقد عبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن هذا القلق، معتبرًا أن الآلات القادرة على القتل دون تدخل بشري "غير مقبولة سياسيًا ومرفوضة أخلاقيًا"، وداعيًا إلى حظرها بموجب القانون الدولي.

إلى جانب البعد الأخلاقي، تشكّل هذه الأسلحة تهديدًا مباشرًا للأمن العالمي. فاعتماد القرار القتالي على البرمجيات يجعل استخدام القوة أسرع وأرخص وأسهل انتشارًا، ما يزيد مخاطر التصعيد غير المحسوب، وانتشار الأسلحة، وصعوبة السيطرة على نتائجها، خاصة في البيئات المعقّدة أو أثناء النزاعات الكبرى.

لكن التحدي الأبرز يتمثل في ما يُعرف بـ"فجوة المحاسبة". ففي حال ارتكبت الآلة خطأً وقتلت هدفًا غير صحيح، يبرز سؤال جوهري: من يتحمل المسؤولية؟ هل هو المبرمج، أم القائد العسكري، أم الشركة المصنّعة، أم الخوارزمية نفسها؟ هذا الغموض يجعل الأسلحة الذاتية التشغيل واحدة من أكثر التقنيات العسكرية إثارة للقلق في مستقبل الحروب.

التوصيل الجوي.. طردك يهبط من السماء

لم يعد التوصيل الجوي بالطائرات المسيّرة مجرد فكرة تجريبية أو مادة دعائية، بل تحوّل إلى واقع عملي في عدد متزايد من المدن حول العالم. شركات كبرى في قطاع التجزئة والخدمات اللوجستية بدأت بالفعل استخدام الدرونز لتوصيل الطرود الخفيفة، مستفيدة من التطور السريع في الذكاء الاصطناعي وتحديث القوانين الجوية المنظمة للمجال الجوي المنخفض.

خلال السنوات الخمس المقبلة، يتوقع خبراء القطاع أن تشهد خدمات التوصيل بالدرونز توسعًا كبيرًا، بحيث يتم نقل نحو 30% من الطرود الخفيفة، مثل الأدوية والوجبات السريعة والمنتجات العاجلة، عبر الطائرات بدون طيار بحلول عام 2030.

أمازون كانت من أوائل الشركات التي دفعت بهذا الاتجاه عبر خدمة Prime Air، التي بدأت عملياتها التجارية في الولايات المتحدة منذ 2022. وبحلول 2025، وسّعت الشركة نطاق الخدمة لتشمل دولًا جديدة، من بينها المملكة المتحدة وإيطاليا، مع دمج التوصيل بالدرونز في شبكة التوزيع اليومية، بحيث تنطلق الطائرات مباشرة من مراكز التوصيل في نفس اليوم.

وتعتمد أمازون على طائرتها المسيّرة MK30، المصممة للطيران لمسافات أطول وبهدوء أكبر، مع قدرة على العمل في ظروف جوية متنوعة. كما تتميز الطائرة بأنظمة استشعار وتجنب متقدمة، تتيح لها التعرف على العوائق المتغيرة في بيئة التوصيل والتعامل معها بشكل مستقل وآمن، ما يعزز ثقة المستهلكين في هذه التقنية.

في المقابل، تتبنى وول مارت نموذجًا مختلفًا يربط التوصيل الجوي بتجربة تسوق رقمية متكاملة. فالشركة تستثمر في الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز لإعادة تعريف دورها، من متجر تقليدي إلى منصة خدمات ذكية، حيث تُستخدم الطائرات المسيّرة كجزء من منظومة تهدف إلى توصيل المنتجات بسرعة وتخصيص تجربة التسوق حسب احتياجات كل عميل.

ومع دخول عام 2026، لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان التوصيل بالدرونز سينتشر، بل متى سيصبح جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية. ومع تسارع الابتكار، وتعاون الحكومات مع الشركات، يبدو أن الطرود التي تهبط من السماء ستتحول قريبًا من مشهد استثنائي إلى خدمة معتادة في مدن المستقبل.

التاكسي الطائر.. التنقل العمودي

لم يعد "التاكسي الطائر" فكرة خيالية من أفلام المستقبل، بل مشروعًا واقعيًا تتسابق شركات عالمية لتحويله إلى وسيلة نقل يومية. الفكرة بسيطة: طائرات كهربائية صغيرة تقلع وتهبط عموديًا، وتنقل الركاب فوق ازدحام المدن خلال دقائق بدل ساعات الانتظار على الطرق.

تقود شركات مثل Joby Aviation و Archer Aviation هذا التحول عبر تطوير طائرات كهربائية من فئة الإقلاع والهبوط العمودي (eVTOL)، قادرة على التحليق لمسافات قصيرة ومتوسطة داخل المدن وبين الضواحي. هذه الطائرات تستهدف الرحلات التي يتراوح طولها بين 20 و50 ميلًا، والتي قد تستغرق أكثر من ساعة بالسيارة، بينما تختصرها جوًا إلى دقائق معدودة.

تعمل شركة Archer حاليًا على استكمال شهادات الاعتماد من إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية وسلطات الطيران العالمية، بهدف دمج طائراتها بأمان في المجال الجوي المدني. وتعتمد طائرة “Midnight” التي تطورها الشركة على تقنية كهربائية بالكامل ومراوح قابلة للإمالة، ما يجعلها أكثر هدوءًا وأقل استهلاكًا للطاقة، ومناسبة للتحليق فوق المناطق الحضرية المكتظة.

من جانبها، تنظر شركات صناعية كبرى مثل هوندا إلى التاكسي الطائر كجزء من منظومة تنقّل متكاملة تربط الأرض بالسماء. وتركز هوندا على تطوير طائرات eVTOL تعمل في طبقة جوية منخفضة أقرب إلى المدن، لتكون امتدادًا عمليًا لوسائل النقل اليومية، سواء للتنقل إلى العمل أو للخدمات الطارئة واللوجستية.

لا يقتصر هذا التحول على الطائرات وحدها، بل يشمل بناء أنظمة تشغيل متكاملة تربط التاكسي الطائر بوسائل النقل الأرضية، وأنظمة الحجز، وإدارة الحركة الجوية، في تجربة تنقل سلسة قد تتم عبر تطبيق واحد. رحلة تبدأ بسكوتر كهربائي، ثم تاكسي طائر، ثم وسيلة نقل أرضية أخيرة، ضمن تذكرة رقمية موحدة.

اقتصاديًا، تشير التقديرات إلى أن سوق "التاكسي الطائر" قد يصل إلى 3.8 مليار دولار بحلول عام 2032، مع انطلاق تجارب تجارية حقيقية في مدن مثل دبي، ومدن أمريكية ويابانية بحلول عام 2026. ورغم التحديات المرتبطة بالتشريعات وقبول الجمهور، يتفق خبراء الصناعة على أن السؤال لم يعد “هل سيحدث؟” بل “متى؟”.

ومع التقدم التقني المتسارع، يبدو أن التنقّل العمودي مرشح ليكون مكمّلًا للسيارات ووسائل النقل التقليدية، لا بديلًا عنها. فبدل الجلوس في زحام لا ينتهي، قد يصبح التحليق فوق الشوارع خيارًا طبيعيًا في مدن المستقبل قريبًا.

اقرأ أيضًا :

القاموس الجوي.. فك شيفرة لغة "الدرونز"
تطور المسيرات.. من البالونات حاملة المتفجرات إلى الأسراب الذكية
الدرونز.. سيناريوهات مظلمة لعصر المسيّرا

الأكثر مشاهدة

أحصل على أهم الأخبار مباشرةً في بريدك


logo alelm

© العلم. جميع الحقوق محفوظة

Powered by Trend'Tech