مع انتشار الطائرات المسيّرة "الدرونز" وتطور تقنيات التحكم فيها، يواجه العالم اليوم تهديدات جديدة تتخطى الجيوش لتطال المدنيين وأمن المدن. ولم تعد هذه الأجهزة مجرد أدوات للمراقبة أو البحث العلمي، بل أصبحت سلاحًا محتملًا بيد مجموعات صغيرة، وقد تصبح شبكات المراقبة الذكية قوة تسيطر على خصوصيتنا، بينما تبقى السماء حساسة لأي خلل في أنظمة الملاحة العالمية.
السيناريو الأول.. تقنيات المسيّرات من الجيوش إلى العصابات
مع تقدم تقنيات الطائرات بدون طيار وأسراب الطائرات المسيّرة، يبرز تهديد جديد للأمن التقليدي. فلم تعد هذه القدرة حكرًا على الجيوش أو الدول، إذ تعتمد التقنية الحديثة على برمجيات مفتوحة المصدر وقطع منخفضة التكلفة، ما يجعلها في متناول المجموعات الإجرامية والمنظمات غير الحكومية. ويفتح هذا التحول الباب أمام سيناريوهات خطيرة، مثل استخدام العصابات لأسراب الطائرات لتنفيذ عمليات اغتيال دقيقة، أو اختراق السجون، أو توصيل الممنوعات، مع قدرة هذه الأنظمة على تجاوز أنظمة الدفاع التقليدية مثل الكاميرات والحراس والبوابات الأمنية.
وأظهرت التجارب العسكرية الحديثة في الصين والولايات المتحدة أن أسراب الطائرات يمكنها تنفيذ مهام استطلاعية وهجومية بدون الحاجة إلى وجود مباشر للقوات البشرية، مع تقليل الخسائر البشرية وتخفيض التكاليف التشغيلية، وتوسيع نطاق العمليات بشكل غير مسبوق.وإذا انتقلت هذه القدرات إلى أيدي الجماعات الإجرامية، فإنها لن تقتصر على تنفيذ هجمات محددة، بل قد تعيد تعريف مفهوم القوة والسيطرة في البيئات الحضرية والمعقدة، حيث يصبح من الصعب توقع الهجمات أو التصدي لها بسبب سرعتها ودقتها وتنقلها المستمر.
علاوة على ذلك، فإن هذه التقنية تمنح تفوقًا كبيرًا لمجموعات صغيرة، حيث يمكن لمجموعة محدودة مسلحة بأسراب مسيرات أن تهدد أهدافًا كبيرة أو محصنة مثل السجون، في ظل ضعف الإجراءات المضادة التقليدية وعدم جاهزية الأجهزة الأمنية لمواجهة تهديدات موزعة وجماعية في الوقت نفسه. كما أن سهولة تطوير هذه الأنظمة وتدريب المشغلين يزيد من إمكانية وصول العصابات إلى التقنية، مما يعزز خطر العمليات المعقدة التي كانت سابقًا صعبة التنفيذ مثل عمليات الاغتيال. وبهذا الشكل، تصبح الطائرات المسيّرة وأسرابها أداة جديدة لتوسيع نطاق الهجمات خارج سيطرة الدولة، وتفرض على الجهات الأمنية إعادة التفكير في استراتيجيات الحماية والمواجهة التقليدية لمواكبة هذا التهديد المستجد.
السيناريو الثاني.. نهاية الخصوصية
تخيّل مدينة تُدار من السماء، حيث تحل الطائرات المسيّرة محل سيارات الشرطة في مراقبة الشوارع، تحلّق بصمت فوق الأحياء مزوّدة بعدسات فائقة الدقة وخوارزميات قادرة على قراءة الوجوه وفهم أنماط السلوك. وفي هذه الحالة، لا تقتصر المراقبة على الاستجابة للحوادث، بل تتحول إلى متابعة دائمة لا تتوقف، تُحلَّل فيها الحركات والإيماءات على مدار الساعة.
وفي الولايات المتحدة، توسّع الشرطة استخدام الطائرات المسيّرة في المراقبة، بينما يسعى القطاع الخاص إلى تطبيقات شخصية وتجارية، ما يثير مخاوف حول الجمع بين التعرف على الوجوه، والأشعة تحت الحمراء، وأجهزة الاستماع الصوتي، إذ يمكن لهذه التقنيات تتبع المركبات والأفراد على نطاق واسع، وحتى المرور دون ملاحظة من نوافذ المنازل أو دور العبادة.
وفي المملكة المتحدة، تدرس الشرطة استخدام كاميرات متقدمة على طائرات بدون طيار من ارتفاع يصل إلى 1500 قدم، قادرة على بث صور حية عالية الجودة حتى في ظروف الإضاءة المنخفضة، وتمييز ملامح الوجه والملابس ولوحات المركبات، مع القدرة على البقاء في الجو لمدة تصل إلى أربع ساعات ونقل البيانات لمسافة 50 كيلومترًا. وقد أثار هذا الأمر مخاوف المدافعين عن الحريات المدنية بشأن الخصوصية وإمكانية استهداف المتظاهرين السلميين، لا سيما في ظل غياب تشريعات واضحة وسياسات عامة تحكم استخدام هذه التقنية.
وتوصي منظمات حقوقية، مثل منظمة الحريات المدنية الأمريكية، بضرورة فرض قيود صارمة على استخدام الطائرات، حيث لا يمكن إتمامه إلا عن طريق مذكرة قضائية أو في حالات الطوارئ، الاحتفاظ بالبيانات لأسباب محددة، وإشراف عام واضح على العمليات لمنع إساءة الاستخدام. وفي غياب هذه الضمانات، يتحوّل الشارع إلى فضاء يُراقب باستمرار، وتصبح كل حركة تحت الملاحظة، مما يغيّر طبيعة الحياة اليومية، ويضعف قدرة المواطنين على التحرك بحرية، ويطرح أسئلة جوهرية حول التوازن بين الأمن والحرية في العصر الحديث.
السيناريو الثالث.. فوضى المسيّرات وأمطار البلاستيك
ترتكز حركة معظم الطائرات المسيّرة، سواء المستخدمة لأغراض مدنية أو عسكرية، على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي بوصفه المرجع الأساسي للتوجيه والاستقرار. ويجعلها هذا الاعتماد شبه الكامل شديدة الحساسية لأي اضطراب يصيب هذه الإشارات. وفي حال تعرض الأقمار الصناعية لعطل مفاجئ، سواء بفعل نشاط شمسي عنيف أو هجوم رقمي منسّق، قد تفقد أعداد هائلة من المسيّرات بوصلتها في آنٍ واحد. عندها، تتحول الأجواء إلى مساحة فوضوية، إذ تنحرف الطائرات عن مساراتها أو تهوي بلا تحكم، خارج إرادة مشغليها.
ولا يُعد نظام تحديد المواقع العالمي مجرد أداة لتحديد موقعك أثناء السير في المدينة أو السفر، بل هو شبكة معقدة من الأقمار الصناعية التي ترسل إشارات دقيقة إلى الأرض، ويتمكن جهاز الاستقبال من حساب موقعه بدقة تتراوح بين متر واحد وعشرة أمتار، أو أقل باستخدام أجهزة متقدمة. وعلى مدى العقدين الماضيين، استُخدم GPS لدراسة الزلازل وحركة الصفائح التكتونية، ومراقبة نشاط البراكين، وحتى قياس التساقط الثلجي ومستويات المياه، ما يظهر مدى الاعتماد الكبير على هذا النظام في تطبيقات حيوية تتجاوز الملاحة البسيطة.
ويعني تعطل النظام فقدان الدقة التي تعتمد عليها المسيرات للطيران بثبات وتحديد مساراتها. ففي حالة انقطاع الإشارات، ستصبح هذه الطائرات غير قادرة على ضبط موقعها أو توازنها، ما يؤدي إلى سقوطها أو انحرافها عن مسارها المخطط. وستصبح عمليات النقل والإمداد عبر المسيرات، والاستطلاع، والمراقبة الجوية معرضة للفشل الجماعي، ما يعكس هشاشة الاعتماد الكلي على نظام واحد.
ويوضح هذا السيناريو أن مستقبل الطائرات المسيّرة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقة في إشارات GPS. بينما وفّرت هذه التقنية قدرات غير مسبوقة للعلماء والجيش والمدنيين، فإن أي اضطراب كبير قد يحول السماء إلى مساحة غير متوقعة، حيث تصبح ملايين الأجهزة غير متحكم بها. وقد يحتم هذا على المطورين والجهات العسكرية البحث عن أنظمة ملاحة احتياطية، أو اعتماد تقنيات هجينة، لتفادي انهيار كامل في حال حدوث أزمة كبرى، سواء طبيعية أو إلكترونية، قد تعيد رسم الحدود بين الأمان والسيطرة على السماء.
اقرأ أيضًا:
تطور المسيرات.. من البالونات حاملة المتفجرات إلى الأسراب الذكية
القاموس الجوي.. فك شيفرة لغة "الدرونز"
حين تقتل الخوارزميات.. مستقبل الاغتيالات في عصر الذكاء الاصطناعي














