كشفت دراسة جديدة عن فجوة جوهرية في قدرات الذكاء الاصطناعي على التعميم مقارنة بالعقل البشري، ففي الوقت الذي تتفوق فيه الآلات على البشر في مهام معقدة كحل معادلات الفيزياء المتقدمة أو تحليل النصوص الأكاديمية، تفشل فشلاً ذريعاً في حل ألغاز بسيطة يستطيع أي إنسان عادي حلها خلال ثوانٍ معدودة.
تُعد هذه المفارقة أحد أهم التحديات التي تواجه تطوير الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، ذلك النوع من الذكاء الآلي الذي يحلم العلماء بأن يحاكي قدرات العقل البشري في التعلم والتكيف مع أي موقف جديد.
طور الباحث في الذكاء الاصطناعي فرانسوا شولييه عام 2019 اختباراً ثورياً يُعرف باسم “مجموعة التجريد والاستدلال” (ARC)، وهو عبارة عن مجموعة من الألغاز البصرية الصغيرة تتكون من شبكات ملونة. يُطلب من المُجيب استنتاج قاعدة خفية من مثال أو مثالين، ثم تطبيق هذه القاعدة على حالة جديدة.
رغم بساطة هذه الألغاز ظاهرياً، إلا أنها تمثل تحدياً حقيقياً لأقوى نماذج الذكاء الاصطناعي المتاحة حالياً، بينما يجدها البشر ممتعة وسهلة الحل. هذا التناقض يكشف عن فجوة جوهرية في طريقة عمل الذكاء الاصطناعي مقارنة بالعقل البشري.
يوضح غريغ كامرادت، رئيس مؤسسة جائزة ARC والباحث في الذكاء الاصطناعي، أن “تعريفنا للذكاء هو القدرة على تعلم أشياء جديدة”. فرغم أن الذكاء الاصطناعي يستطيع الفوز في لعبة الشطرنج أو Go، إلا أن هذه النماذج لا تستطيع التعميم على مجالات جديدة أو تعلم مهارات مختلفة تماماً.
هذا ما يُسمى بـ”الذكاء المدبب” – قدرة عالية في مجال محدد دون القدرة على النقل والتطبيق في مجالات أخرى. بينما الذكاء البشري يتميز بقدرته الفائقة على التعميم والتكيف مع مواقف جديدة لم يسبق له التعرض لها.
في دراسة شملت 400 شخص تم اختبارهم على النسخة الثانية من الاختبار (ARC-AGI-2)، حقق المشاركون معدل نجاح بلغ 66%. والأكثر إثارة للاهتمام أن تجميع إجابات 5 إلى 10 أشخاص احتوى على الحلول الصحيحة لجميع الأسئلة في الاختبار.
هذه النتائج تُظهر أن البشر ليسوا فقط قادرين على حل هذه الألغاز بسهولة، بل إن الذكاء الجمعي البشري يحقق نسبة نجاح 100% في مهام لا تزال تُعتبر تحدياً كبيراً لأقوى نماذج الذكاء الاصطناعي.
إحدى أهم نقاط التميز للعقل البشري هي كفاءته الاستثنائية في التعلم. يمكن للإنسان أن يتعلم مهارة أو مفهوماً جديداً من مثال أو مثالين فقط ويطبقه بنجاح في مواقف مشابهة. هذه القدرة على “التعلم من عينات قليلة” تتفوق بدرجات على ما يمكن للذكاء الاصطناعي الحالي تحقيقه.
يصف كامرادت هذا الأمر قائلاً: “الخوارزمية التي تعمل في الدماغ البشري أكثر كفاءة بدرجات مما نراه في الذكاء الاصطناعي حالياً”.
هذا الأسبوع، تُطلق مؤسسة ARC نسخة ثالثة من الاختبار تُسمى ARC-AGI-3، والتي تمثل تطوراً جذرياً في منهجية الاختبار. بدلاً من الاعتماد على الألغاز الثابتة، ستستخدم النسخة الجديدة 100 لعبة فيديو مصممة خصيصاً لاختبار قدرات وكلاء الذكاء الاصطناعي.
هذه الألعاب ستختبر قدرات جديدة لم تكن ممكنة في الاختبارات السابقة، مثل التخطيط الاستراتيجي والاستكشاف وفهم البيئة المحيطة. في الاختبارات الأولية، لم ينجح أي نموذج ذكاء اصطناعي في إكمال حتى مستوى واحد من هذه الألعاب.
السبب وراء تطوير النسخة الثالثة هو أن معظم اختبارات الذكاء الاصطناعي الحالية “ثابتة” – أي تعتمد على سؤال واحد وإجابة واحدة. لكن الحياة الحقيقية أكثر تعقيداً من ذلك، فنادراً ما نتخذ قرارات معزولة عن السياق والخبرة السابقة.
الاختبارات التفاعلية تسمح بقياس قدرات مثل التخطيط طويل المدى والتعلم من التجربة والتكيف مع بيئات جديدة، وهي قدرات أساسية للذكاء الحقيقي.
رغم التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي، تُظهر هذه الاختبارات أن الطريق نحو الذكاء الاصطناعي العام لا يزال طويلاً. كامرادت يقترح تعريفاً عملياً للـAGI: “عندما لا نعود قادرين على إيجاد مشاكل يستطيع البشر حلها ولا يستطيع الذكاء الاصطناعي حلها”.
بالنظر إلى النتائج الحالية، نحن بعيدون كل البعد عن تحقيق هذا الهدف. فرغم قدرة نماذج مثل OpenAI’s o3 على اجتياز اختبارات الدراسات العليا وحل مسائل معقدة، إلا أنها لا تزال تفتقر للقدرة على التعميم التي يتمتع بها أي طفل بشري.
هذه الأبحاث تكشف عن حقيقة مهمة: الذكاء الحقيقي ليس مجرد معالجة للمعلومات بل هو القدرة على التعلم والتكيف والتعميم في مواقف جديدة تماماً. العقل البشري، بكل بساطته الظاهرية، يحتوي على آليات معقدة للتعلم لا نفهمها بالكامل بعد.
ربما الأهم من ذلك، هذه الدراسات تذكرنا بأن التقدم في الذكاء الاصطناعي لا يعني بالضرورة الاقتراب من محاكاة الذكاء البشري. فكما أن الطائرة لا تحلق مثل الطيور رغم تفوقها عليها في السرعة والمسافة، قد يكون مستقبل الذكاء الاصطناعي في تطوير أشكال جديدة من الذكاء تكمل القدرات البشرية بدلاً من استبدالها.