في عالمٍ تتقلب فيه الأسواق كأمواج البحر، يقف المستثمر متردّدًا بين الأمل والخوف، هل يُغامر بأمواله أم ينتظر حتى تهدأ العاصفة؟ يبدو السؤال بسيطًا، لكنه في الحقيقة اختبارٌ لقدرة الإنسان على مقاومة فطرته الأولى في الأمان، واختبارٌ آخر لوعيه المالي في زمنٍ صار فيه الاستثمار أحد وجوه البقاء الاقتصادي.
فحين تتراجع الأسواق وتتصاعد الأخبار عن الأزمات، يتحول الخوف إلى مستشار غير موثوق. يتجه كثيرون إلى الاحتفاظ بأموالهم نقدًا، ظنًا منهم أنهم يحمونها من الخسارة. غير أن الخبراء يرون أن هذا القرار -رغم منطقيته الظاهرية- قد يكون أكثر القرارات ضررًا على المدى الطويل.
ويقول تقرير صادر عن مؤسسة «WEALTH at work»، المتخصصة في الرفاه المالي والتقاعدي، إن «الاستثمار التزام طويل الأمد، ومقاومة القرارات الانفعالية هي ما يصنع الفرق بين النجاح والفشل».
فالسوق بطبيعته دورات متتابعة من الصعود والهبوط، ومن لا يصمد في الأوقات الصعبة يفقد فرص النمو حين تعود الأمور إلى مسارها الطبيعي.
من بين أكثر الأخطاء شيوعًا لدى المستثمرين الجدد تأجيل القرار انتظارًا لما يسمّى «اللحظة المثالية».
لكن كما يوضح التقرير، فإن «توقيت السوق» مهمة شبه مستحيلة حتى للمحترفين. إذ عادةً ما تتبع فترات الانخفاض ارتفاعات قوية، ومن يخرج من السوق خوفًا من الخسارة يفقد نصيبه من الارتداد التالي.
ويشهد تاريخ الأسواق بذلك من أزمة 2008 إلى جائحة «كوفيد-19»، كانت الانخفاضات الكبرى مقدّمةً لموجات نموّ لاحقة. لذلك، يبقى المبدأ الذهبي: «الاستثمار يتعلق بالوقت داخل السوق، لا بتوقيت السوق».
الاستثمار ليس قالبًا واحدًا. فما يناسب شابًا في الثلاثين من عمره يختلف تمامًا عمن يخطط لتقاعده بعد عشر سنوات.
ويُشدد التقرير على أن على المستثمر أن يسأل نفسه سؤالين قبل أي خطوة: ما الهدف من الاستثمار؟ وما درجة المخاطرة التي يمكنني تحمّلها؟
فمن يسعى لشراء منزل بعد خمس سنوات ليس كمن يستثمر لمستقبل أبنائه بعد عقدين.
الاستثمار الآمن يمنح طمأنينة لكنه محدود العائد، أما الاستثمارات الأعلى مخاطرة فقد تفتح الباب لأرباح أكبر لكنها تتطلب صبرًا وقدرة على تقبل الخسائر المؤقتة.
في زمن العولمة، لم يعد الاستثمار حبيس الأسواق المحلية. فالمحفظة الذكية -كما يرى الخبراء- هي تلك التي تمتد عبر قطاعات ومناطق متعددة.
الاستثمار في أسهم من آسيا أو سندات من أوروبا أو شركات تكنولوجيا في الولايات المتحدة، يمكن أن يخفّف من أثر الأزمات المحلية ويجعل العائد أكثر استقرارًا على المدى الطويل.
تتيح حسابات حساب الادخار الفردي في بريطانيا، مثلا، هذا التنوع بسهولة، إذ يمكن لحاملها الاستثمار في أصول عالمية دون دفع ضرائب على الأرباح أو الدخل الناتج عنها. إنها طريقة تجمع بين المرونة والحماية الضريبية في آنٍ واحد.
يقول جوناثان واتس-لاي، مدير «WEALTH at work»، إن «التقلبات الضريبية الأخيرة تجعل من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن يستغل الناس إعفاءاتهم مثل حسابات الادخار الفردي، وألّا يتعاملوا مع الاستثمار بانفعال».
ويضيف: «العديد من أصحاب العمل يقدّمون برامج للتثقيف المالي أو حسابات استثمارية ضمن مكان العمل، تتيح لموظفيهم الادخار بمزايا ضريبية أفضل. من الحكمة أن يسأل كل موظف صاحب عمله عمّا يمكن أن يقدمه في هذا الجانب».
ويرى واتس-لاي أن الاستقرار الحقيقي لا يأتي من تجنب المخاطر بل من فهمها. فالأسواق دائمًا ما تمرّ بدورات اضطراب، لكن من يبقى فيها طويلًا غالبًا ما يحصد الثمار.
في النهاية، يبدو أن الاستثمار في الأوقات المضطربة ليس مجرد قرار مالي، بل موقف ذهني أيضًا. إنه اختبار لقدرة الإنسان على النظر أبعد من اللحظة الراهنة، وعلى الإيمان بأن الصبر -لا الذكاء وحده- هو رأس المال الحقيقي في لعبة الاقتصاد الحديث.