في ظل التحولات الاقتصادية والتقنية المتسارعة، بات الإنفاق على البحث والتطوير (R&D) أحد أبرز مؤشرات تقدم الدول وقدرتها على المنافسة عالميًا. وخلال العقدين الماضيين، تضاعف هذا الإنفاق عالميًا بشكل مذهل، ليصل إلى 2.75 تريليون دولار في عام 2023، بعد أن كان نحو تريليون دولار فقط في عام 2000.
من أبرز ملامح هذا التحول كان الدور المتعاظم للصين. ففي عام 2000، لم تكن الصين تمثل سوى 4% من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير، لكن بحلول عام 2023، أصبحت تستحوذ على 26%، بإنفاق سنوي بلغ 723 مليار دولار، مقتربة من الولايات المتحدة التي لا تزال الأولى بـ784 مليار دولار فقط.
يعكس هذا الصعود اللافت استراتيجية صينية واضحة للهيمنة على قطاعات التقنية المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة المتجددة. ومع دخول الصين بقوة إلى سباق الابتكار، لم يعد التفوق الأميركي في هذا المجال مضمونًا كما كان في السابق.
بينما تتصدر الولايات المتحدة والصين المشهد، شهدت دول كبرى مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية نموًا في الإنفاق، لكنه جاء بوتيرة أقل. فعلى سبيل المثال، أنفقت اليابان نحو 183 مليار دولار في 2023، وألمانيا 131 مليار، وكوريا الجنوبية 121 مليار. هذه الأرقام لا تزال قوية، لكنها تُظهر وجود فجوة آخذة في الاتساع مقارنة بالعملاقين الصيني والأميركي.
أما الدول الأوروبية الأخرى مثل المملكة المتحدة، فرنسا، وإيطاليا، فباتت تواجه تحديات في الحفاظ على موقع تنافسي في عالم يتغير بسرعة، مع ضغط متزايد للحاق بركب الابتكار.
لا يمكن النظر إلى الإنفاق على البحث والتطوير باعتباره مجرد إنفاق علمي، بل هو أداة استراتيجية تمكّن الدول من تحقيق سيادة اقتصادية وأمنية. فالدول التي تقود الابتكار، تقود أيضاً أنماط الإنتاج العالمي، وتُشكّل ملامح المستقبل التكنولوجي للعالم.
وتُظهر بيانات 2023 أن الولايات المتحدة والصين وحدهما تمثلان أكثر من نصف الإنفاق العالمي في هذا المجال، ما يكرّس التحول نحو نظام عالمي ثنائي القطب تكنولوجيًا.
مع صعود الصين واشتداد المنافسة في ميدان الابتكار، تبدو السنوات المقبلة حاسمة في تحديد مَن سيتربع على عرش التكنولوجيا عالميًا. فالمعادلة أصبحت واضحة: من يملك البحث والتطوير، يملك المستقبل. ومن لا يواكب هذا السباق، قد يجد نفسه في الهامش الاقتصادي والتقني لعقود قادمة.