يمثل الباحث والناشر محمد السيف نموذجًا للمثقف المنتج الذي يعمل بعيدًا عن الأضواء، لكن أثره يتردد بوضوح في عمق المشهد الثقافي السعودي، فعبر مسيرة مهنية امتدت لعقود، كرس جهده لتوثيق تاريخ المملكة الموازي عبر كتابة سير شخصيات محورية، وتأسيس مشاريع ثقافية رائدة، وإدارة مؤسسات إعلامية بارزة.
يسلّط هذا التقرير الضوء على مسيرة السيف ومنهجيته، استنادًا إلى ملف خاص نشرته مجلة “شرفات”، الملحق الثقافي لمجلة “اليمامة” في عددها الصادر في أكتوبر 2025.
يكرس محمد السيف الجزء الأكبر من مشروعه الفكري لحقل السير الغيرية، الذي يعتبره عدسة لفهم التحولات السياسية والإدارية للمجتمع السعودي.
ألّف السيف في هذا المجال كتبًا مرجعية عن شخصيات إشكالية ومؤثرة، من أبرزها سيرة عبدالله الطريقي، أول وزير للنفط في المملكة، وناصر المنقور، والدبلوماسي حمزة غوث، وغيرهم ممن شكلوا علامات فارقة في تاريخ الدولة.
ويرى المخرج وكاتب السيناريو، محمود صباغ، أن إصدارات السيف ليست مجرد حكايات فردية، بل هي “مشروع متماسك ينظر إلى السيرة كخرائط مصغرة للعقل السياسي والإداري”.
وتتجاوز أعماله السرد التقليدي لتتحول إلى تشريح للبنى العامة التي عمل ضمنها هؤلاء الرواد، وكيف تشكل القرار الوطني وتوازنات الدولة.
وينطلق محمد السيف في منهجيته من قاعدة فكرية واضحة، إذ صرح في حواره قائلًا: “التاريخ ليس كتابًا مقدسًا، ففيه يحصل الخطأ والتقصير، وربما الهوى وغايات النفس”، ولهذا، يسعى جاهدًا لتحري الحقيقة عبر التنقيب الدقيق في الوثائق والمصادر، متسلحًا بما يسميه “الجرأة الأدبية” في طرح الحقائق بعيدًا عن أي تعصب.
وبحسب شهادة الكاتب علي العميم، فإن السيف نجح في أن يكون “مؤرخًا وأديبًا” في آن واحد، حيث يكتب التاريخ بلغة أدبية دون أن يضحي بالدقة العلمية، وقد أسهم هذا المنهج في تقديم سردية تاريخية موازية، تمنح القارئ فهمًا أعمق لمراحل التأسيس والتنمية في المملكة.
ويعتبر الكاتب هاشم الجحدلي أن محمد السيف كان جزءًا أصيلًا ومؤثرًا في “كتابة التاريخ السعودي الجلي والذي لم تتح الفرصة له أن يكتب بهذه الجدية والصرامة البحثية”.
بدأت رحلة محمد السيف من بيئة بسيطة في الزلفي، حيث شكلت مكتبة والده، الذي كان مديرًا لإحدى المدارس، أساس تكوينه الثقافي الأول.
وتدرج في مسيرته الصحافية عبر محطات بارزة، بدءًا من عمله محررًا ثقافيًا في صحيفة “الشرق الأوسط” و”إيلاف” الإلكترونية، ثم رئيسًا للقسم الثقافي في جريدة “الاقتصادية” ، وصولًا إلى منصب رئيس تحرير “المجلة العربية” التي لا يزال على رأسها.
ويعد تأسيسه لـ”دار جداول” للنشر والترجمة عام 2010، بالشراكة مع الراحل الدكتور يوسف الصمعان، إحدى المحطات المفصلية في مسيرته، والتي أصبحت اليوم، كما يشير الدكتور سعيد الزهراني، “واحدة من أبرز دور النشر العربية وأكثرها رصانة ومسؤولية وتجددًا”.
ويرى السيف أن الدار هي التعبير العملي عن قضيته الأولى في الحياة، وهي “المعرفة قراءة وتأليفًا وتشجيعًا وإسهامًا”.
وتجاوز دوره كونه ناشر ومؤلف ليمتد إلى الإدارة الثقافية الفاعلة، ففي عام 2015، شهدت مسيرته منعطفًا مهمًا حين تولى الإشراف العام على مركز الملك فهد الثقافي.
وفي شهادته، يكشف الزهراني أن السيف كان صاحب القرار في عودة الحفلات الغنائية الجماهيرية إلى الرياض لأول مرة بعد عقود من الانقطاع، مما شكل مرحلة فارقة في تاريخ الفعاليات الفنية في العاصمة.
يُعرف عن محمد السيف ندرة حضوره في المناسبات والفعاليات الثقافية، وهي حقيقة يقر بها بنفسه قائلًا إن مرد ذلك هو انشغاله بالقراءة والتأليف.
ويستند في ذلك إلى مقولة لغازي القصيبي حول ضرورة الموازنة بين الواجبات الاجتماعية والإنتاج الكتابي، لكن هذه العزلة المختارة لم تمنعه من بناء شبكة واسعة من العلاقات الإنسانية العميقة، وترك أثر إيجابي في مسيرة الكثيرين.
وتكشف شهادات أقرانه عن جوانب شخصية وإنسانية قد لا تظهرها كتبه، فتصفه الكاتبة مشاعل عبدالله بأنه “جسر يصل بين أجيال متعاقبة من الكتاب والقراء”، وتؤكد أنه آمن بأن “الكتابة لا تبني مجد صاحبها فقط، بل تسهم في بناء مجد الآخرين حين تحفظ سيرهم”، ويروي الكاتب مازن الغيث كيف أن محمد السيف فتح أمامه أبواب الكتابة والنشر، وشجعه على عدم التوقف.
ويجمع المثقفون الذين أدلوا بشهاداتهم على أنه قائد هادئ وزاهد في الأضواء، لكنه مؤثر في فعله، ويذكر الزهراني تجربته معه في المجلة العربية، فيصفه بأنه “قائد خلاق وإيجابي يتشاور مع فريقه ويتنازل بكبرياء رفيع عن سطوة الرئيس”.