في العاشر من مارس 1954، ولد الشاعر السوري رياض الصالح الحسين، أحد أهم رواد الشعر العربي الحديث، الذي كان مسكونا بوطنه وبطالته ومعاناته اليومية، ورغم قصر عمره استطاع بكلماته البسيطة والمرهفة أن يمس مشاعر وأحاسيس من قرأوا أشعاره.
النشأة
ولد الحسين في محافظة درعا السورية لعائلة تنحدر من قرية مارع بريف حلب. وقبل أن يبلغ الثالثة عشرة من عمره فقد قدرته على السمع والنطق إثر جراحة أُجريت له في مستشفى المواساة بالعاصمة دمشق، فلم يُكمل تعليمه، ولا يُعرف ما إن كان قد تقدم لنيل شهادات لاحقة بشكل حر أم لا، وإن لا يعتقد ذلك، لكن المؤكد أنه علم وثقف نفسه بنفسه لاحقا.
ولأن والده كان موظفًا بسيطًا (متطوع في الجيش) كان الحسين مُطالبًا بالخروج في سنٍ مبكرة لسوق العمل للمساعدة في تدبير النفقات، حيث غادر بلدته مارع وذهب إلى مدينة حلب.
وفي حلب عمل الحسين بشركة النسيج، ثم في إحدى المؤسسات الجامعية؛ وفي العام 1976 بدأ بكتابة الشعر والعمل بالصحافة حتى وفاته. وانتقل في العام 1978 من مدينة حلب ليعيش في دمشق، وكان قد تحول نهائيًا إلى كتابة قصيدة النثر.
مسيرته الشعرية
انطلقت مسيرة الحسين الشعرية في العام 1976، وكان يبلغ حينها 22 عاما، وكانت في البداية كما حدث لأغلب شعراء قصيدة النثر من جيل السبعينات، موزونة ومقفاة، في مجلة “جيل الثورة” وهي دورية شهرية صدرت لفترة لا بأس بها عن الاتحاد الوطني لطلبة سوريا.
وفي العام 1977، تحول الحسين نهائيا لكتابة قصيدة النثر، وتعتبر قصيدتا “الرجل السيء” و”جرثومة النبع” أهم قصائد تلك المرحلة. أما مجموعته الشعرية الأولى فصدرت في العام 1979، عن وزارة الثقافة السورية بعنوان “خراب الدورة الدموية”، وبعدها بعام، صدرت مجموعته الثانية “أساطير يومية”، عن وزارة الثقافة أيضًا.
وفي العام 1982، صدر ديوانه الثالث “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس”، والذي تُوفي بعده صدوره ببضعة أشهر بسبب قصور في عمل الكليتين نجم عنه توقف عمل القلب. والمفارقة أن الوفاة كانت في المستشفى نفسه الذي أُصيب فيه بالصمم إثر عملية جراحية أجريت له داخله. وبعد وفاته بعام نُشر الديوان الرابع والأخير للشاعر الحسين “وعلٌ في الغابة”.
وتُبرز الدواوين الأربعة جوانب من الحياة السريعة التي عاشها رياض الصالح الحسين، المريض، والفقير، والعاشق.. والغاضب والحزين أيضا؛ وتكشف عن ثورة مختبئة داخل كلماته لا تلبث إلا أن تتجسد وتعلن عن نفسها ببساطة كالماء، ووضوح كطلقة مسدس!
ففي ديوانه الأول “خراب الدورة الدموية” الصادر في العام 1979″ تظهر لنا بساطة ووضوح شعره حين يقول:
“كئيبًا ومنفتحًا كالبحر، أقف لأحدِّثكم عن البحر
مستاءً وحزينًا من الدنيا، أقف لأحدِّثكم عن الدنيا
متماسكًا وصلبًا ومستمرًّا كالنهر، أقف لأحدِّثكم عن النهر”.
أو في نصّ آخر يحاكي صراعه مع الموت:
“أمس لم يسأل عني أحد
زارني الموت ولم يكن على الرفّ قهوة
ولأن الموت يحب القهوة مثل جميع الناس
فلقد قلب شفتيه وصفق الباب وراءه
ومضى في قطار العتمة”
وفي ديوانه الثالث “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس” الصادر في العام 1982، تنبأ الحسين بثورة السوريين، حيث يقول:
“يا سوريا القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سوريا
كأغنية في صحراء”
ثم يمضي في ذات الديوان ليعلن عن الانفجار وثورة الإنسان، حيث يقول:
“غرفة صغيرة صالحة للحياة
غرفة صغيرة وضيقة صالحة للموت
غرفة صغيرة ورطبة لا تصلح لشيء
غرفة صغيرة فيها:
امرأة تقشّر البطاطا واليأس
عامل باطون لا ينام أبدا
بنت تبكي كثيرا بدون سبب
وأنا ولد مشاكس وغير لئيم
لدي كتب وأصدقائه
ولا شيء غير ذلك.
منذ أن ولدت بلا وطن
ومنذ أن أصبح الوطن قبرًا
ومنذ أن أصبح القبر كتابًا
ومنذ أن أصبح الكتاب معتقلاً
ومنذ أن أصبح المعتقل حلمًا
ومنذ أن أصبح الحلم وطنًا
بحثت عن غرفة صغيرة وضيِّقة
أستطيع فيها التنفُّس بحريَّة”
ويتحدث رياض عن نفسه في أشعاره، فيقول في قصيدة “الرجل السيئ” التي كتبها في العام 1976 وجاءت في ديوانه الأول “خراب الدورة الدموية”، حيث يقول:
“أنا رياض الصالح الحسين
عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحل
ومئات المجازر والانقلابات
وللمرة الألف يداي مُبادتان.
للمرة الألف يداي مُبادتان
كشجرتي فرح في صحراء”.
وفي ديوانه “أساطير يومية” يصف الحسين نفسه قائلا:
“أنا رجل وسيم
طولي 167 سم
أنا تراكتور معطوب
أبحث عن عمل منذ ثلاثة أشهر وتوابيت
جلست في المقهى لأشرب شاياً ممزوجاً بالدبابيس
أنا رجل وسيم
قال لي صديقي: “مدّ يدك واقطف امرأة”
أيها الصديق الجاهل
الحب قطاع خاص
ولذلك علينا أن نفعل شيئاً”.
وكما يتضح، يتميز شعر الحسين ببساطته المرهفة ووضوحه العميق وإخلاصه الشديد للحالة التي يعبر عنها. وكان يستمد مادته من الواقع اليومي المعاش ويساعد قرائه من خلال إضاءات موهبته على اكتشاف جوهر الواقع والقوانين التي تحركه، ما جعل وفاته خسارة للأدب السوري والعربي.
لا يحب التطرق إلى الخصوصيات
كان الحسين لا يحب التطرق إلى الخصوصيات، بحسب الشاعر منذر المصري، الذي جمع دواوينه وطبعها في العام 2012، ضمن مجلد “الأعمال الكاملة” بعد انطلاق الثورة السورية، حيث يقول في مقدمة الأعمال الكاملة عن رياض “لم أسمعه يتحدث عن أهله ولا عن دراسته.. أما مرضه، فقد كان يودّ لو يخفيه عن الجميع !. ولأن هذا لم يكن ممكنا فعلى الأقل يُمكنه أن يجعل الحديث عنه محظورا”
وأضاف منذر في مقدمة الأعمال الكاملة أن رياض كان “يغيظه أن ينتبه أحد ما، من خارج دائرة أصدقائه ومعارفه لإعاقته السمعية والنطقية ويسأله عنها”، لافتا إلى أنه كان “تحاشيًا لجلوس فضولي ما بجواره، يحجز مقعدين في الباص كلما سافر، كان يريد أن يخفي أي عيب ونقص في نظر الآخرين.
الاعتقال والتعذيب
واكبت حياة الشاعر رياض الصالح الحسين عدة تحولات، إلّا أن التحول الأكثر تأثيرًا في حياته القصيرة، كان اعتقاله مع مجموعة من الشعراء والمثقفين السوريين، الذين أسهم معهم في إصدار نشرة “الكراس الأدبي”، حيث تعرض خلال فترة الاعتقال لكثير من التعذيب؛ للتأكد من صممه وتعثر نطقه. وكان لهذه التجربة القاسية أن حددت وبلورت أفكاره وموقفه السياسي لبقية حياته.
أزمة عاطفية
تعرض رياض لأزمة عاطفية قاسية، عندما قطعت حبيبته علاقته معه، إثر معرفتها برحلته إلى اللاذقية، بصحبة الفنانة التشكيلة هالة الفيصل، ما جعله لا ينام لأيام، يقضى لياليه وحيدا، دون صحبة أحد، سوى التدخين والكحول، مما أدى لانهياره بالكامل صحيا وذهنيا.
وعلى إثر سوء حالته الصحية جرى نقل الحسين إلى مستشفى المواساة في دمشق، ليتوفى خلال وجوده فيها بصورة مفاجئة ومفجعة في 21 نوفمبر من العام 1982 بعد تعرضه لفشل كلوي، وهو في الثامنة والعشرين من عمره تاركا أثرا كبيراً، في عالم الشعر السوري.
ويشار إلى أن الشاعر رياض الصالح الحسين دُفن في بلدته مارع. وبعد الانتهاء من مراسم الدفن، وفق ما يذكر صديقه منذر المصري، استقبل أهله المعزين بفتور ظاهر، وبعد دفن رياض، عاد الأب معهم إلى دمشق ليجمع كل أغراض رياض الشخصية. ويذكر بندر عبد الحميد أن أكثر ما اهتم به أبو رياض هو مستحقات ابنه المالية والأمور المادية الأخرى!
الشاعر الدبلوماسي..من هو “عبد الله أبوراس” الذي أحزن رحيله السعوديين؟
رب السيف والقلم.. أبيات خالدة للشاعر والقائد محمود سامي البارودي
عبد الله بن إدريس.. رائد التجديد وشاعر نجد الأصيل