اتجهت الأنظار في السنوات الأخيرة إلى الطعام، ليس فقط كوسيلة للعيش، بل كأداة لفهم تاريخ البشرية أيضًا. وعلى الرغم مما أشاعته وسائل التواصل الحديثة من حب للطهي واعتباره فنًا، فإن هذا ليس أمرًا طارئًا، وإنما كان الطهي جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان عبر العصور، ويشكل ركنًا أساسيًا من ثقافات وحضارات متعددة.
لذلك لا يغني تطور أساليب الطهي وظهور الوصفات الحديثة، عن البحث في تاريخ ذلك والفن عن إجابة لسؤال: ما هي أقدم وصفة طعام وصلنا إليها؟
بداية، اكتشف علماء الآثار بقايا طعام قديم في العديد من الأماكن حول العالم، بدءًا من آثار العصيدة المحترقة على الأواني الحجرية في العصر الحجري وحتى الخبز في مصر القديمة. وعلى الرغم من ذلك، كانت الوصفات في العصور القديمة غالبًا ما تنتقل شفهياً من جيل إلى آخر، ولم تكن موثقة في كثير من الأحيان.
لكن تحديد ما إذا كانت النصوص القديمة تحتوي على وصفات طعام يعد مهمة معقدة. وفقًا لفاريل موناكو، زميل أكاديمي في جامعة ليستر، فإن “الوصفات” كما نعرفها اليوم اختراع حديث. فقد كانت التعليمات القديمة للطهي تفتقر إلى المقاييس والوزن الذي نراه في كتب الطهي اليوم، ما يجعل من الصعب تحديد إذا كانت تلك النصوص فعلاً تعليمات للطهي أو ربما وصفات طبية.
علاوة على ذلك، فإن بعض الكلمات من تلك النصوص لا يمكن ترجمتها بشكل دقيق، وبعض المكونات قد تكون غير موجودة في عالمنا المعاصر، مما يجعل فك شيفرة الوصفات القديمة مهمة غير سهلة.
في أوائل القرن العشرين، وصل إلى جامعة ييل الأمريكية أربعة ألواح طينية بابلية تحمل نصوصًا مكتوبة باللغة المسمارية، التي يعود تاريخها إلى حوالي 1730 قبل الميلاد، حار العلماء في البداية في تفسير محتوياتها.
وفي عام 1945، اقترحت العالمة ماري هاسي أن هذه الألواح قد تحتوي على وصفات طعام، لكن زملاءها رفضوا هذا الاقتراح، معتقدين أن النصوص ربما تحتوي على مكونات طبية أو خيميائية.
ولم يُكتشف بشكل واضح أن هذه الألواح تحتوي على وصفات طعام حتى عقد الثمانينات. وفي تلك الفترة، قال عالم الآثار جان بوتيرو إن الألواح البابلية تحتوي على وصفات فعلية للطعام، على الرغم من أن وصف الطعام الوارد في هذه الألواح بأنه غير قابل للأكل.
لكن التحدي الأكبر جاء في إعادة بناء هذه الوصفات القديمة، حيث عمل الدكتور جوجكو بارجاموفيتش، أستاذ الدراسات السومرية في جامعة ييل، مع فريق متعدد التخصصات في جامعة هارفارد لترجمة هذه النصوص القديمة. لكن الألواح كانت تالفة، ما جعل القراءة الدقيقة لها عملية معقدة.
ومع ذلك، تمكن الفريق من استعادة بعض المكونات الهامة المفقودة وتحديد أنواع الطعام التي وصفت. على الرغم من وجود العديد من المكونات التي كانت غير قابلة للترجمة، فإن الفريق تمكن من إعادة بناء بعض الأطباق القديمة التي كانت تحتوي على مرق، وفطائر محشوة بالعصافير، وحساءات نباتية وحيوانية تحتوي على مكونات مثل لحم الحمل والكزبرة.
تظهر تلك الوصفات القديمة أن المكونات قد تبدو مشابهة لبعض أطباق العراق المعاصرة، لكنها تضمنت مكونات قد تبدو غير مألوفة أو حتى غير مستساغة لبعض الأشخاص اليوم، مثل الدم والقوارض المطبوخة.
كانت إحدى الوصفات تشير إلى طريقة إعداد اللحم مع الماء والملح المطحون وكعك الشعير المجفف والبصل والثوم، وهي تتشابه مع بعض الأطعمة التي تُعد في الشرق الأوسط اليوم، رغم البساطة المفرطة في التعليمات التي كانت تفتقر إلى المقادير الدقيقة.
تعتبر هذه الوصفات أقدم ما اُكْتُشِف حتى الآن، على الرغم من أن تاريخ الطهي يمتد على مدى آلاف السنين.
ووفقًا للدكتور موناكو، فإن دراسة هذه الوصفات لا تساعدنا فقط على تقدير طعامنا اليوم، بل تساهم أيضًا في إلقاء الضوء على أهمية الطعام في الثقافات المختلفة عبر التاريخ. “يجب أن نرى الطعام كموروث ثقافي يعبر عن هوية الإنسان، فهو حلقة وصل بين الماضي والحاضر”، تقول موناكو.
وهكذا تستمر الأبحاث في الكشف عن الروابط بين الطعام والثقافة عبر العصور، وتؤكد لنا أن المطبخ لم يكن مجرد وسيلة لتلبية الاحتياجات الغذائية، بل كان أداة نقل ثقافي. ربما تظل بعض الأطباق القديمة غامضة، لكن الوصفات التي كشف عنها العلماء اليوم تسلط الضوء على كيفية تطور طهي الطعام عبر آلاف السنين، وتشير إلى أهمية الطعام كجزء من هوية الإنسان الثقافية.
