يحاول العلماء منذ عقود كشف الغموض الكامن وراء نشأة العناصر الثقيلة في الفضاء، وخاصة تلك التي تتطلب ظروفاً نادرة ومعقدة لتتشكل مثل الذهب، وفي دراسة حديثة نُشرت في مجلة الفيزياء الفلكية، سلّط فريق من الباحثين الضوء على فرضية جديدة قد تغيّر ما نعرفه عن هذه العمليات.
تعود بداية تكون العناصر إلى لحظات ما بعد الانفجار العظيم الذي وقع قبل نحو 13.8 مليار سنة. في تلك الحقبة، ظهرت العناصر الأخف مثل الهيدروجين والهيليوم، تلتها كميات قليلة من الليثيوم. أما العناصر الأثقل، فقد نشأت لاحقاً عبر مراحل تطورية داخل النجوم، خاصة أثناء انفجاراتها الهائلة.
في حين أن الحديد والعناصر المتوسطة الكتلة يمكن تفسير نشأتها عبر النجوم المتفجرة، بقيت بعض العناصر الثقيلة لغزاً يصعب حله، وهنا بدأ العلماء في دراسة الأحداث النادرة في الفضاء التي قد تكون مسؤولة عن تلك الكتلة العنصرية المعقدة.
في عام 2017، رُصد تصادم ضخم بين نجمين من النوع الكثيف للغاية، ما نتج عنه انفجار ضوئي هائل وموجات جاذبية انتشرت عبر الزمكان، أدى هذا الحدث المعروف باسم “كيلونوفا”، إلى تشكل عناصر ذات كتل عالية، مما اعتُبر آنذاك من أبرز الاكتشافات في علم الفيزياء الفلكية.
لكن دراسة جديدة اقترحت أن هناك أحداثاً أخرى وقعت قبل هذا الاصطدام بوقت طويل قد تكون لها القدرة على إنتاج مكونات مشابهة أو حتى أندر.
تركز الدراسة الجديدة على نوع من النجوم عالية الكثافة ذات نشاط مغناطيسي استثنائي، ويعتقد أن هذه النجوم القديمة جداً، أنها تشكلت بعد أول ظهور للنجوم في الكون بزمن قصير، وفي بعض الأحيان، تُصدر هذه النجوم توهجات قوية نتيجة هزات داخلية تُعرف باسم “الزلازل النجمية”.
تحدث هذه الزلازل عندما تتراكم ضغوط داخلية هائلة نتيجة الحركات في البنية الداخلية للنجم، ما يؤدي إلى إطلاق دفعات شديدة من الأشعة السينية، ويُشبه العلماء هذه الظاهرة بالزلازل الأرضية، لكن على نطاق أكبر وبطاقة تفوق التصور.
بحث فريق الدراسة في أرشيف بيانات تعود لأكثر من عشرين عاماً، جمعتها تلسكوبات فضائية تابعة لوكالات دولية، وركّزوا على حدث رُصد عام 2004، تمثل في انفجار هائل أطلق إشعاعات قوية لم يتم تفسيرها حينها بشكل دقيق.
لكن عند مقارنة هذه الإشارات بالنماذج الفيزيائية التي وضعها الفريق، تبين أن هناك تطابقاً مذهلاً يشير إلى أن ذلك الحدث قد يكون مسؤولاً عن إنتاج عناصر ثقيلة عبر آلية غير تقليدية.
اقترح الباحثون أن التوهجات التي تطلقها تلك النجوم قد تُسخّن سطحها وتؤدي إلى انبعاث مواد بسرعة عالية، مما يخلق الظروف المثالية لتشكل عناصر جديدة. ويُرجح أن هذه الظروف تتضمن ضغطاً عالياً وحرارة فائقة، ما يساعد على اندماج مكونات المادة لإنتاج عناصر لم تكن موجودة من قبل.
وأكد أحد الباحثين أن مثل هذه الظواهر قد تفسّر تكوّن جزءاً لا بأس به من المواد الثقيلة التي نراها اليوم على كوكبنا، وفي أجهزتنا الإلكترونية.
على الرغم من أن الفرضية مثيرة للاهتمام، فقد شككت بعض الأصوات الأكاديمية في إمكانية تعميم النتائج، حيث علقت عالمة فيزياء فلكية من جامعة روما بأن البيانات الجديدة لا تصل من حيث القوة والوضوح إلى مستوى الأدلة التي تم جمعها في اكتشافات سابقة.
وأشارت إلى أن هذه النجوم المعينة قد تفرز عناصر أخرى أقل كثافة، مثل الفضة أو الزركونيوم، نظراً لتعقيد تركيبها الداخلي وخصائصها المغناطيسية.
لا يزال أمام العلماء الكثير لفهمه، ويتوقع أن تُطلق وكالة الفضاء الأميركية في عام 2027 مهمة جديدة تستهدف دراسة هذه الظواهر النادرة باستخدام تلسكوب متطور مخصص لرصد أشعة غاما.
ويأمل الباحثون أن تساعد هذه المهمة في تحديد طبيعة العناصر المتكونة بدقة، وتأكيد ما إذا كانت هذه الأحداث مسؤولة بالفعل عن نشأة مكونات نادرة في الكون.
رغم الجهود العلمية الكبيرة، لا يزال أصل بعض العناصر المعقدة في الفضاء موضع تساؤل. وتُعد هذه الدراسة خطوة مهمة نحو توسيع معرفتنا بشأن تكوّن المادة في المراحل الأولى من نشأة الكون.
ومع تطور التكنولوجيا وتزايد التعاون العلمي، قد نشهد في المستقبل القريب تحولات في فهمنا لآليات تكوّن العناصر، وربما نعيد النظر في الكثير من الفرضيات التي ظلت سائدة لعقود.
يمكنك أن تقرأ أيضًا:
إنفوجرافيك| انبعاثات الكربون.. هكذا حولتها السعودية إلى كنز اقتصادي
إنفوجرافيك| ما هي المعادن الأرضية النادرة التي منعتها بكين عن واشنطن؟