بعد ستة أشهر من دخول الثوار السوريين إلى دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي، يجد الزعيم الجديد أحمد الشرع نفسه في مواجهة تحدٍ وجودي. فآلاف المقاتلين الأجانب، الذين ساعدوه بشكل أساسي في الإطاحة بالنظام السابق، والذين قدموا من مناطق تمتد من أوروبا إلى آسيا الوسطى، باتوا الآن يمثلون عقبة كأداء أمام ترسيخ سلطته وبقائه السياسي.
وبينما يحاول الشرع احتواء بعض هذه العناصر عبر منحهم مناصب رفيعة في وزارة الدفاع، والتلميح بإمكانية تجنيس أعداد منهم، تصطدم هذه المساعي بموقف أمريكي متشدد. إذ تشترط إدارة الرئيس دونالد ترامب ترحيل كافة هؤلاء المقاتلين كشرط أساسي لتخفيف العقوبات الاقتصادية التي أصابت الاقتصاد السوري بالشلل. وقد برز هذا المطلب بوضوح خلال لقاء جمع ترامب بالشرع في السعودية خلال شهر مايو الماضي، حيث نقلت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن الرئيس الأمريكي حث الزعيم السوري على ضمان “مغادرة جميع الإرهابيين الأجانب”.
ولا تقتصر التحديات على الضغوط الخارجية. فبينما يبدو الشرع حريصًا على الإبقاء على نواة من الحلفاء الأجانب، يتسبب بعض المتشددين السنة بينهم في اضطرابات متزايدة. ووفقًا لتقارير مجموعات الرصد، يُشتبه في تورط عناصر أجنبية في أعمال عنف طائفية اجتاحت المناطق الساحلية السورية قبل نحو شهرين (مارس – أبريل 2025)، وأسفرت عن مقتل المئات من أبناء الأقلية العلوية، مما يهدد بزعزعة استقرار المرحلة الانتقالية الهشة.
في الوقت ذاته، تُبدي شريحة من المقاتلين الأكثر تطرفًا استياءً من الشرع – الذي عرفوه سابقًا كرفيق لهم بكنية “أبو محمد الجولاني” – معتبرين أنه لم يطبق تفسيرهم للشريعة الإسلامية بالسرعة الكافية، ويزعمون تعاونه مع القوات الأمريكية والتركية لاستهداف فصائل جهادية أخرى. ونُقل عن مقاتل أوروبي في إدلب، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لصدور أوامر بمنع التصريحات، قوله: “الجولاني يهاجمنا من الأرض، وأمريكا من السماء”.
وعلى مدار العقدين الماضيين، شهدت سوريا والعراق المجاور تدفق عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب، انضم الكثير منهم إلى القتال ضد نظام الأسد خلال الحرب الأهلية التي امتدت قرابة 14 عامًا. وبينما التحق قسم منهم بتنظيمات متطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية، انضم آخرون إلى فصائل أقل تشددًا. وبحسب تقديرات الباحثين هناك حوالي 5000 من المقاتلين الأجانب لا يزالون في سوريا، وقد اندمج العديد منهم، خاصة في الركن الشمالي الغربي للبلاد، في المجتمعات المحلية عبر الزواج من نساء سوريات وإنجاب أطفال نشأوا هناك.
ويمتلك الرئيس أحمد الشرع نفسه تاريخًا مع القتال ضمن تنظيم القاعدة في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، قبل أن يؤسس “جبهة النصرة” في سوريا. وعندما أعادت الجماعة هيكلة نفسها تحت اسم “هيئة تحرير الشام” عام 2017، أعلنت قطع صلاتها بتنظيم القاعدة وعملت على تعزيز نفوذها كقوة متمردة رئيسية، غالبًا على حساب فصائل إسلامية أخرى. وفي محاولة للتعامل مع الوضع الدقيق الراهن، أفاد محللون سياسيون ومقاتلون بأن الحكومة الجديدة أمرت العناصر الأجنبية بالابتعاد عن الأضواء وتجنب الإدلاء بتصريحات علنية.
على الرغم من المطالبة الأمريكية بـ”طرد جميع الإرهابيين”، يرى خبراء مثل جيروم دريفون، المحلل البارز في شؤون الجهاد والصراعات الحديثة بمجموعة الأزمات الدولية، أن تنفيذ هذا المطلب يكتنفه الغموض والتعقيد. يتساءل دريفون: “من هم الإرهابيون في هذه الحالة؟” فالأمم المتحدة لم تُدرج سوى بضع عشرات من المقاتلين كإرهابيين، وفي كثير من الحالات، تفتقر حكومات بلدانهم الأصلية إلى معلومات كافية عن أنشطة مواطنيها في سوريا. ويضيف: “وعندما يقولون ‘اطردوهم’، حسنًا، ولكن إلى أين؟ دولهم لا تريدهم”.
اليوم، يقع غالبية هؤلاء تحت لواء هيئة تحرير الشام (التي يتزعمها الشرع حاليًا)، أو حزب تركستان الإسلامي المتحالف معها بشكل غير وثيق، ويتركز وجود معظمهم في محافظة إدلب، التي أدارتها الهيئة ككيان شبه مستقل خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد.
وفي محافظة إدلب، التي شكلت لسنوات معقل هيئة تحرير الشام، قبل أن يقود زعيمها أحمد الشرع التغيير في دمشق، تنسج حياة المقاتلين الأجانب خيوطًا معقدة في المشهد اليومي. يمكن للناظر أن يميز بوضوح عناصر غير سورية، يُعتقد أن كثيرين منهم يتحدرون من أصول وسط آسيوية، وهم يجوبون الشوارع المزدحمة على دراجاتهم النارية لتأمين احتياجاتهم اليومية من خبز ومؤن، أو يتوجهون في جماعات نحو المساجد استجابةً لنداء الصلاة المرتفع. بعضهم يرتدي الزي العسكري، بينما يفضل آخرون الظهور بالملابس المدنية. ورغم هذا الحضور الملحوظ، يسود جو من التحفظ، فالأوامر صدرت إليهم بتجنب الأضواء الإعلامية، وأي أحاديث صحفية تتم تكون مشروطة بعدم الكشف الكامل عن هوياتهم.
يروي “مصطفى”، وهو اسم حركي لمقاتل فرنسي، كيف أقدم على السفر من باريس عام 2013 للانخراط في القتال ضد قوات نظام الأسد، منضمًا في البداية إلى فصيل صغير ضم بشكل أساسي مصريين وفرنسيين، قبل أن يصبح جزءًا من جبهة النصرة، الكيان الأم لهيئة تحرير الشام الذي كان مرتبطًا آنذاك بتنظيم القاعدة. وفي قلب مدينة إدلب، يتذكر الحلاق محمد كردي، البالغ من العمر 35 عامًا، أنه اعتاد دائمًا على استهلال عمله مع أي زبون جديد بالسؤال عن جنسيته. يقول: “استقبلنا هنا أشخاصًا من بيلاروسيا، والشيشان، وأوزبكستان، ومناطق أخرى.” وفي بعض الأحيان، كان يستفسر عن غياب زبائن اعتادوا التردد على محله، ليأتيه الجواب غالبًا بأن “الكثير منهم قد استشهدوا”.
ويرى خبراء يتابعون مسار الجماعات الإسلامية أن هؤلاء المقاتلين، بشكل عام، قد شهدت مواقفهم نوعًا من الاعتدال النسبي بمرور الوقت، وإن ظل أغلبهم متمسكًا برؤية محافظة للغاية. ويشير عروة عجوب، الباحث في جامعة مالمو والمتخصص في دراسة هيئة تحرير الشام، إلى أن “الغالبية الساحقة ممن استمروا تحت سيطرة الهيئة حتى مرحلة التقدم نحو دمشق، قد تم بطريقة أو بأخرى استقطابهم أو احتواؤهم ضمنيًا”. ومع ذلك، لا يبدو أن فكرة مغادرة الأراضي السورية تراود أيًا من هؤلاء المقاتلين الذين تم التواصل معهم، خشية الاعتقال أو مواجهة أحكام قاسية قد تصل للإعدام في بلدانهم الأصلية. يؤكد “مصطفى” الفرنسي: “أنا مُلاحق في معظم الدول الأوروبية”. ويردد مقاتل آخر: “ليس لدينا وجهة أخرى نلجأ إليها”.
في حين يبدي معظم من تم استطلاع آرائهم قبولاً بتطبيق متدرج للشريعة الإسلامية، تُظهر أقلية من العناصر المتصلبة والمتشددة نفاد صبر متزايد. هؤلاء يوجهون انتقادات لاذعة للسلطات الجديدة عبر منصات التواصل الاجتماعي، واصفين إياها بأنها “منحرفة عن النهج الإسلامي الصحيح” لعدم تعجيلها بفرض تفسيرهم للشريعة، ولالتقائها بقادة غربيين يعتبرونهم خصومًا في العقيدة.
وقد عبّر عن هذا التوجه رجل الدين الكويتي علي أبو الحسن، الذي شغل سابقًا منصبًا دينيًا في جبهة النصرة، بقوله عبر قناته على منصة تيليغرام في وقت سابق من شهر مايو الماضي: “لقد أصبح المهاجرون عبئًا على الجولاني (الشرع)، بعد أن كانوا مصدر قوته. وسيتخلص منهم حالما يجد بديلاً لهم”.
ومما يزيد من سخط هذه المجموعات المتشددة، اعتقادهم الراسخ بأن الشرع قد نسّق جهودًا مع الولايات المتحدة وتركيا لاستهداف خلايا تابعة لتنظيمي “الدولة الإسلامية” (داعش) والقاعدة، من خلال غارات جوية، وذلك كجزء من استراتيجيته لتعزيز سيطرة هيئة تحرير الشام، أولاً في معقلها بإدلب ثم لاحقًا في العاصمة دمشق.
وكانت تصريحات لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان في ديسمبر الماضي قد لمّحت إلى هذا التعاون الاستخباراتي. كما ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” في شهر يناير الماضي أن الحكومة السورية الجديدة استعانت بمعلومات استخباراتية أمريكية للمساعدة في إحباط مخطط لتنظيم الدولة الإسلامية كان يستهدف مزارًا شيعيًا خارج دمشق.
ويعلق برودريك ماكدونالد، الزميل المشارك في برنامج أبحاث “XCEPT” بكلية كينغز كوليدج لندن، والذي تركزت أبحاثه الميدانية على المقاتلين الأجانب: “نرى منشورات متزايدة تعبر عن نفاد صبرهم. البعض يتحدث عن استعداده لمقاتلة طاغية جديد”، مضيفًا: “أنهم ينظرون إلى الوضع الراهن ويتساءلون بمرارة إن كان هذا هو ما قاتلوا من أجله طوال 14 عامًا”. وفي أحد مساجد إدلب، ذهب مقاتل أوروبي ينتمي إلى جماعة “حراس الدين” (المنشقة عن القاعدة والتي تم حلها لاحقًا) إلى حد وصف فصيل الشرع بأنه عدو لا يقل خطورة عن الولايات المتحدة، قائلاً: “إنهم يزودون الأمريكيين بإحداثياتنا لقصفنا”.
في ظل هذا المشهد الشديد التعقيد، تتحرك الحكومة السورية الجديدة بحذر بالغ، متجنبة أي خطوات قد تُفهم على أنها استهداف للمقاتلين الذين حافظوا على ولائهم، أو قد تؤدي إلى استفزاز العناصر المتشددة التي تشعر بخيبة أمل ومرارة. ويشير جيروم دريفون، المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية، إلى أن السلطات “لا تريد أن يُنظر إليها على أنها تخونهم، لأنها في نهاية المطاف لا تعرف ما الذي قد يفعلونه”. ويضيف أن ردود أفعالهم قد تكون غير متوقعة، كالاختفاء والانضمام إلى جماعات أخرى، أو حتى الانخراط في أعمال عنف طائفي، مما قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع بشكل خطير.
بدلاً من المواجهة المباشرة، تسعى السلطات، بحسب دريفون، إلى وضع مبادئ توجيهية واضحة لسلوكيات الأجانب، تتضمن تجنب التحريض على العنف الطائفي أو السياسي، والامتناع عن الدعوة لشن هجمات ضد دول أخرى. كما تهدف خطط الحكومة إلى دمج غالبية هؤلاء المقاتلين في هيكل الجيش الوطني السوري الجديد. ويوضح دريفون: “الفكرة هي وضعهم ضمن بنية عسكرية، ومن الأسهل السيطرة عليهم بهذه الطريقة”، لكنه يقر بأن التقدم في هذا المسار لا يزال بطيئًا. وكان الشرع قد قام بالفعل بتعيين ستة أجانب في مناصب قيادية عليا بوزارة الدفاع، وهي خطوة يراها الخبراء كجزء من محاولته لتأمين موقعه وتوزيع المسؤوليات في هذه المرحلة الدقيقة.