لم تكن ألسنة اللهب التي أضاءت سماء مدينة جامو الهندية، مساء الثامن من مايو، مجرّد حادثة عابرة، بل كانت إنذارًا بدخول الهند وباكستان مرحلة جديدة من الحرب المستمرة لسنوات بين البلدين.
المختلف في هذه المرحلة أنها لا تعتمد كالعادة على المدافع والدبابات، بل على طائرات بدون طيار تحلّق بصمت وتضرب بدقة؛ فرغم عقود من الاشتباكات التي شهدت استخدام الطائرات المقاتلة والصواريخ والمدفعية التقليدية، إلا أن استخدام الطائرات بدون طيار بين الخصمين النوويين، حوّل الحدود المتوترة إلى ساحة اختبار لتقنية جديدة وسباق تسلّح متسارع قد يعيد رسم موازين القوى في جنوب آسيا.
أنفقت الهند وباكستان أكثر من 6 مليار دولار على الدفاع في عام 2024 فقط، لتدخلان اليوم جولة جديدة من المواجهات أساسها التقنيات الذكية والطائرات غير المأهولة.
أجرت وكالة “رويترز” مقابلات مع 15 شخصية من بينهم مسؤولون أمنيون ومحللون تنفيذيون من الجانبين، خلُصت إلى أن استخدام الطائرات بدون طيار سيزداد خلال المرحلة المقبلة؛ إذ أن الهجمات المحدودة بطائرات صغيرة تستطيع ضرب أهداف دقيقة دون تعريض الأرواح للخطر أو إشعال حرب شاملة.
وتخطط الهند لزيادة كبيرة في استثماراتها بمجال الطائرات بدون طيار، حيث يتوقع إنفاق ما يصل إلى 470 مليون دولار خلال عام إلى عامين، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف الإنفاق السابق للصراع، بحسب “سميت شاه” من اتحاد الطائرات بدون طيار في الهند، والذي يمثل أكثر من 550 شركة متخصصة ويتعاون على نحو مباشر مع الحكومة.
وبالتزامن، وافقت نيودلهي هذا الشهر على مخصصات طارئة بقيمة 4.6 مليار دولار للمشتريات العسكرية، وسيُخصص جزء منها لشراء طائرات بدون طيار قتالية واستطلاعية، وفقًا لمصادر مطلعة داخل وزارة الدفاع.
بدأت الحكومة تستدعي الشركات المصنعة لتجارب ميدانية وعروض توضيحية بوتيرة متسارعة وغير مسبوقة، بحسب فيشال ساكسينا، نائب رئيس شركة “أيديا فورج تكنولوجي”.
وضمن التغيرات التي طرأت على مشهد الصراع الهندي الباكستاني، إذ بات الدرون لاعبًا جديدًا في مسرح العمليات، ووسيلة فعالة للردع والمناورة في منطقة متوترة تعيش تحت ظل السلاح النووي.
وفي ظل سعيها لتقليل المخاطر على طائراتها المقاتلة المتطورة، تعمل القوات الجوية الباكستانية على تعزيز قدراتها من الطائرات بدون طيار، بحسب مصدر مطلع.
فرغم أن الهند وباكستان نشرتا طائرات مقاتلة حديثة في المواجهات الأخيرة، إلا أن الفجوة تظل واضحة: باكستان تمتلك نحو 20 مقاتلة صينية من طراز J-10، مقابل حوالي 30 طائرة رافال متطورة لدى الهند.
وللتغلب على هذا التفاوت، تتجه إسلام آباد نحو تعاون أوثق مع الصين وتركيا لتطوير صناعة الطائرات بدون طيار محلي، بحسب أويشي ماجومدار من شركة جينز للاستخبارات الدفاعية.
وأوضح مصدر باكستاني أن هناك تعاونًا قائمًا بين شركة “بايكار” التركية والحديقة الوطنية للعلوم الجوية في باكستان لتجميع طائرات YIHA-III، مشيرًا إلى إمكانية تصنيعها محليًا في غضون يومين إلى ثلاثة.
بينما رفض الجيش الباكستاني ووزارة الدفاع الهندية وشركة “بايكار” التركية التعليق.
يرى خبراء أن الطائرات بدون طيار أصبحت وسيلة فعالة للهجوم دون إثارة تصعيد عسكري مباشر، إذ تسمح بتوجيه رسائل ردع دون المخاطرة بطائرات أو طيارين.
لكن هذا لا يعني أن استخدامها خالٍ من المخاطر، بحسب ما أشار إليه والتر لادويج من جامعة كينجز لندن قائلاً إن الهند وباكستان تنظران إلى استخدام الطائرات بدون طيار كوسيلة لتوجيه رسائل عسكرية دون الانزلاق إلى تصعيد واسع.
وأضاف أن هذه الطائرات تتيح للقادة إظهار القوة وتحقيق تأثير إعلامي محلي، دون المخاطرة بالطائرات باهظة الثمن أو بأرواح الطيارين.
وأكد لادويج أن هذا النوع من الاشتباكات لا يخلو من المخاطر، خاصة إذا اُسْتُخْدِمَت الطائرات بدون طيار لضرب مناطق متنازع عليها أو مكتظة بالسكان، وهي مناطق لم تكن الطائرات المأهولة تُستخدم فيها عادة.
اندلعت أعنف مواجهات بين البلدين في مايو الماضي، بعد هجوم دامٍ وقع يوم 22 أبريل في منطقة كشمير المتنازع عليها، وأسفر عن مقتل 26 شخصًا، معظمهم من السياح الهنود.
وحمّلت نيودلهي المسؤولية عن الهجوم لـ”إرهابيين” مدعومين من باكستان، وهي تهمة نفتها إسلام آباد.
في ردٍ سريع، شنّت الهند غارات جوية يوم 7 مايو على ما وصفته بـ”البنية التحتية للإرهاب” داخل الأراضي الباكستانية. وفي الليلة التالية، أطلقت باكستان موجة من الطائرات بدون طيار -قُدّر عددها بين 300 و400- لاستكشاف الدفاعات الجوية الهندية عبر 36 موقعًا على طول جبهة تمتد لـ1700 كيلومتر.
وقال مسؤولون هنود، إنه تم إسقاط جزء كبير من هذه الطائرات بمدافع مضادة للطائرات تعود إلى الحقبة السوفيتية، تم ربطها برادارات وشبكات اتصالات حديثة طورتها شركة “بهارات إلكترونيكس” الهندية.
من جانبها، نفت باكستان إسقاط عدد كبير من طائراتها، رغم أن تقارير المسؤولين الهنود تشير إلى أن الغارة لم تُسفر عن أضرار كبيرة.
العميد الهندي المتقاعد أنشومان نارانغ، الخبير في شؤون الطائرات بدون طيار، قال إن استخدام الهند للمدافع القديمة كان فعالًا على نحو مفاجئ، مضيفًا: “أداؤها كان أفضل بعشر مرات مما كنت أتوقع”.
الهند من جانبها، استخدمت طائرات إسرائيلية وأخرى بولندية، وأطلقت طائرات مسيّرة محلية لتنفيذ ضربات دقيقة داخل باكستان.
وأفادت مصادر بأن طائرات هاروب الإسرائيلية المعروفة بـ”الطائرات الانتحارية” استخدمت لضرب أهداف محددة داخل العمق الباكستاني، بينما اتبعت باكستان تكتيكات خداعية مثل استخدام رادارات وهمية لاستنزاف الطائرات المعادية.
خسرت الهند وباكستان العديد من الطائرات، لكنهما ماضيان في تطوير ترساناتهما من الدرونز.
وعلق مايكل كوغلمان، الخبير في شؤون جنوب آسيا، قائلًا إن الدرونز “رخيصة نسبيًا”، ورغم أنها لا تُحدث تأثيرًا كالذي تسببه الطائرات المقاتلة أو الصواريخ، إلا أنها تترك انطباعًا قويًا لدى الرأي العام وصنّاع القرار.
وتسعى الهند، بحسب مصادر أمنية ومصنعين، إلى توسيع برامج تطوير طائرات بدون طيار محلية مزودة بذخائر “متسكعة”، وهي طائرات قادرة على التحليق لفترة طويلة قبل ضرب أهدافها بدقة.
وأشار سمير جوشي من شركة نيوز سبيس الهندية إلى أن هذه القدرات تمثل “نقلة نوعية نحو حروب عالية الفعالية ومنخفضة التكلفة”.
الأزمة التي تواجه البرنامج الهندي للطائرات بدون طيار هي الاعتماد على مكونات مستوردة من الصين، شريكة باكستان العسكرية.
قال سميت شاه من اتحاد شركات الطائرات بدون طيار في الهند، إن بلاده لا تزال تعتمد على مغناطيسات وبطاريات ليثيوم من الصين، ما يجعل سلسلة الإمداد عرضة للتهديدات الجيوسياسية.
وأضاف شاه أن تنويع مصادر سلسلة التوريد يعد “تحديًا متوسطًا إلى طويل الأجل”، ولا يمكن حله في المدى القصير.
ويتفق معه ساكسينا من شركة أيديا فروج، فإن “تسليح سلسلة التوريد” قد يمثل تهديدًا استراتيجيًا، خصوصًا في حال قررت بكين استخدام نفوذها على هذه الصناعات كورقة ضغط.
وفي تعليق لوزارة الخارجية الصينية على هذه المسألة، أكدت بكين أنها تلتزم بقوانين وضوابط التصدير، وتحرص على الامتثال للمعايير الدولية فيما يتعلق بالمواد ذات الاستخدام المزدوج.