في خريف العام الماضي، وبينما تتكدّس رسائل القبول في صناديق البريد، تكرر المشهد ذاته في آلاف البيوت الأمريكية؛ لحظة الفرح الأولى بالقبول في جامعة مثل «هارفارد» أو «ستانفورد»، سرعان ما تتبعها صدمة الفاتورة.
فبينما لا تزال هذه الجامعات تمثل ذروة الطموح الأكاديمي، أصبحت تكلفتها أقرب إلى اختبارٍ للثروة لا للجدارة. والسؤال الذي يفرض نفسه في موسم القبول الجديد ليس «هل تم قبول الطالب؟»، بل «هل يستطيع البقاء هناك؟»
تُظهر بيانات صادرة عن «U.S. News & World Report» و«College Board» أن العام الدراسي 2024–2025 حمل أعلى تكلفة تعليم في تاريخ الجامعات الأمريكية، حيث تتراوح الفاتورة السنوية الكاملة في أفضل عشر جامعات وطنية بين 77,500 و98,300 دولار.
وتتصدّ «جامعة شيكاغو» القائمة برسوم دراسية تبلغ 71,300 دولار، فيما تقترب التكلفة الإجمالية فيها من سقف المئة ألف. أما «ديوك» و«ييل» و«ستانفورد»، فتسير على الخط نفسه، متجاوزة حاجز السبعين ألف دولار في الرسوم وحدها.
حتى «هارفارد»، رغم امتلاكها أحد أضخم الأوقاف التعليمية في العالم، لم تعد بعيدة عن هذا السباق المالي، حيث تبلغ رسومها الدراسية 59,300 دولار، لكن حين تضاف إليها تكاليف السكن والتأمين والنفقات المعيشية، يقفز الإجمالي إلى نحو 95 ألف دولار سنويًا. إنها مفارقة قاسية، جامعة غنية بما يكفي لتمويل دول صغيرة، لكنها تُبقي تكلفة تعليمها مرتفعة على نحو يهدد إمكانية الوصول إليها.
كيف تشكّلت الفجوة؟
لا يتعلق الأمر بمجرد ارتفاع طبيعي في الأسعار، فالتعليم النخبوي بات يعيش في «طبقة مالية» معزولة عن بقية مؤسسات التعليم العالي. فبينما يبلغ متوسط الرسوم الدراسية في الجامعات الخاصة غير الربحية نحو 43,400 دولار، تتجاوز جامعات القمة هذا المتوسط بنحو 50%. أما في الجامعات الحكومية، فينخفض المتوسط إلى 29,200 دولار للطلاب من خارج الولاية، و11,600 دولار فقط للمقيمين داخلها.
بلغة الأرقام، يمكن لطالبٍ في جامعة حكومية محلية أن يدرس أكثر من ست سنوات بالتكلفة نفسها التي ينفقها طالب واحد في «جامعة شيكاغو» خلال عام واحد.
هذا التفاوت لا يمكن فهمه إلا في سياقٍ تاريخي طويل. فمنذ عام 1963، وبعد احتساب التضخم، ارتفعت رسوم الجامعات الأمريكية بنسبة مذهلة بلغت 748%. لم يكن هذا الارتفاع نتيجة التضخم وحده، بل انعكاسًا لسباقٍ بين الجامعات على التميز المادي، من حيث المباني الزجاجية جديدة، والمعامل مجهزة بأحدث التقنيات، والرواتب مرتفعة للأساتذة ذوي الأسماء اللامعة، وخدمات طلابية تقترب من رفاهية الفنادق. غير أن هذا «التسويق الفاخر» للتعليم أنتج ظاهرة عكسية، هي تقلص قاعدة القادرين على الوصول إليه.
هل ما زال التعليم النخبوي «استثمارًا مربحًا»؟
يبرر كثيرون هذه التكاليف بكونها «استثمارًا في المستقبل»، فشهادة من «MIT» أو «برينستون» قد تفتح أبواب شركات عالمية ورواتب خيالية. لكنّ المعادلة لم تعد مضمونة كما كانت. فبحسب بيانات «College Scorecard» الحكومية، يبلغ متوسط الدين الجامعي لخريجي الجامعات الخاصة نحو 34 ألف دولار، بينما يستغرق كثيرون أكثر من 20 عامًا لسدادها.
الأدهى أن سوق العمل لم يعد يضمن المكافأة ذاتها. فالتقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي يغيّران قواعد اللعبة، والمهارات الرقمية صارت أهم من اسم الجامعة على الشهادة. وهو ما يدفع شريحة من الطلاب إلى إعادة التفكير إن كان يستحق اللقب الأكاديمي من جامعة نخبوية كل هذا العبء المالي.
الهروب إلى الخارج.. حلم جديد بأقل تكلفة
تبدو الإجابة جزئيًا في حركة الطلاب الأمريكيين إلى خارج البلاد. فبحسب تقرير «الأبواب المفتوحة» الصادر عن معهد التعليم الدولي (IIE)، تضاعف عدد الأمريكيين الذين يدرسون درجات علمية كاملة في الخارج خلال خمس سنوات فقط، من نحو 50 ألفًا في عام 2019 إلى أكثر من 90 ألفًا في 2024.
لم يعد الذهاب إلى كندا أو أوروبا أو آسيا خيارًا للنخبة، بل أصبح مسارًا واقعيًا للهروب من التضخم التعليمي المحلي. ففي بلدان مثل ألمانيا أو هولندا أو سنغافورة، يمكن الحصول على تعليم جامعي مرموق برسوم لا تتجاوز عُشر ما تفرضه الجامعات الأمريكية. ومع انتشار التعليم المدمج عبر الإنترنت، صارت الحدود الأكاديمية أكثر مرونة من أي وقت مضى.
ما الذي يبقى من «الحلم الأمريكي»؟
ربما تكمن المفارقة الكبرى في أن التعليم، الذي كان يومًا بوابة الحلم الأمريكي ووسيلة الصعود الاجتماعي، صار اليوم عاملًا من عوامل الإقصاء الطبقي. لم تعد القبولات الجامعية في «الآيفي ليج» تكرّس مبدأ تكافؤ الفرص، بل تذكّر بفجوة الثروة التي تتسع عامًا بعد عام.
ومع استمرار تصدّر «برينستون» و«MIT» و«هارفارد» التصنيفات العالمية، تتزايد التساؤلات داخل المجتمع الأمريكي عن القيمة الفعلية لهذه القلاع الأكاديمية إن أصبحت أسوارها تحجب الداخلين لا تستقبلهم.












