لم يكن موسم الحج عام 1927م مجرد حدث ديني عابر في تاريخ مكة المكرمة، بل شكل نقطة تحول بارزة في تطوير البنية التحتية لخدمة الحجاج، ففي هذا العام، أشرف الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود شخصيًا على تنفيذ حزمة من الإصلاحات المعمارية داخل الحرم المكي الشريف، وكان من أبرزها استبدال أرضية الحصى التقليدية ببلاط أسمنتي حديث، وهي خطوة غير مسبوقة في وقتها أسهمت في تخفيف حرارة الأرض ونظافة المكان بشكل كبير.
وتشير التفاصيل التي نشرتها جريدة “أم القرى” في عددها رقم 143 الصادر بتاريخ 9 سبتمبر 1927م، إلى أن مساحة ساحة الحرم آنذاك بلغت حوالي 1584 ذراعًا معماريًا، وبدأ العمل على تبليطها بالبلاط الأسمنتي المصنوع بواسطة آليات حديثة وصلت مؤخرًا من الخارج. وتميز هذا النوع من البلاط بمتانته وشكله الجمالي وعدم نقله للحرارة، كما أنه سهل التنظيف بالماء صباحًا ومساءً، مما يوفر راحة كبيرة للمصلين.
ولم يقتصر التبليط على الساحات غير المغطاة، بل تقرر تعميمه على جميع مناطق الحرم لتوحيد الشكل والخامة، في خطوة تعكس الرؤية التنظيمية المبكرة للملك عبدالعزيز في خدمة الحجاج.
وفي العام التالي 1928م، استمرت الإصلاحات الملكية لتشمل مناطق المشاعر المقدسة، حيث تم استحداث مظلات في الطريق الرابط بين مشعر عرفات ومكة المكرمة بهدف إراحة الحجاج من حرارة الشمس أثناء العودة.
وذكرت “أم القرى” في عددها 181 الصادر بتاريخ 8 يونيو 1928م أن الملك عبدالعزيز أمر بتوفير المياه في هذه المظلات، وتوفير سيارات إسعاف لنقل من يصابون بضربات الشمس.
وشملت التحسينات الصحية إعداد عدد من السيارات التابعة لإدارة الصحة العامة لتجوب الطريق بين مكة وعرفات، بهدف حمل المرضى من الحجاج الذين يتعرضون للإجهاد أو ضربة الشمس.
وبلغ عدد من تم إسعافهم في ذلك الموسم نحو 1500 حاج، تم توزيعهم على مراكز طبية في منى ومكة وعرفات، وتُظهر هذه الخطوة المبكرة وعيًا صحيًا متقدمًا لتوفير الرعاية العاجلة للحجاج في وقت لم تكن مثل هذه الخدمات شائعة في معظم دول العالم الإسلامي آنذاك.
بحلول عام 1932م، ومع قرب إعلان توحيد المملكة، تم تعزيز المنظومة الصحية والخدمية بشكل أكبر، حيث شُكلت لجنة متخصصة لمراقبة جودة سكن الحجاج في مكة، وركزت مهام اللجنة على التأكد من نظافة المنازل وعدد قاطنيها بما يتناسب مع مساحتها، ومنع استغلال الحجاج بأسعار مرتفعة، وضمان توفير المرافق الأساسية.
وفي ذات العام، أُنشئت نُزُل سكنية صغيرة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، تضم غرفًا للنوم ومرافق للاستحمام وتقديم الطعام والشراب، وجاءت هذه المبادرات كتأكيد على حرص الدولة السعودية الناشئة على وضع ضيوف الرحمن في مقدمة أولوياتها.
ومن أبرز إنجازات عهد الملك عبدالعزيز في خدمة الحجاج افتتاح طريق الحج البري الرابط بين العراق والمملكة عام 1935م (1353هـ)، فقد شكل هذا الطريق نقلة نوعية في تيسير تنقل الحجاج من بلاد الرافدين إلى الأراضي المقدسة، ونشرت جريدة “أم القرى” في عدة أعداد، أبرزها بتاريخ 1 مارس و12 أبريل 1935م، تقارير مفصلة عن هذا الطريق والخطط الأمنية والخدمية المصاحبة له.
ووضعت اللجنة المشرفة على الطريق معايير دقيقة للسيارات المخصصة لنقل الحجاج، شملت الفحص الفني الكامل قبل كل رحلة، وتوفير مياه كافية للركاب والمحرك لمسافة تصل إلى 800 كيلومتر، كما تضمنت التعليمات تجهيز السيارات بزيوت وأدوات احتياطية، والتأكد من صلاحيتها لتحمل مشاق الطريق الطويلة.
وعلى مستوى التنظيم الأمني، فرضت اللجنة ضوابط دقيقة لحركة القوافل لضمان سلامة الحجاج، حيث وجّهت بأن تسير السيارات بشكل جماعي وتحت إشراف مسؤولين.
كما تم اعتماد نظام إشارات بالأعلام لتحديد حالات التوقف الطارئة أو الحاجة إلى دعم فني أو أمني. وأوصت اللجنة بأن يحمل كل موكب أعلامًا بألوان محددة (أحمر، أخضر مائي، وأصفر)، ولكل لون دلالة خاصة يجب أن يكون السائقون على دراية بها مسبقًا.
كما تضمن التقرير الرسمي خرائط تفصيلية توضح مواقع الآبار ومصادر المياه الصالحة للشرب، ووصفًا لطبيعة الأرض والتضاريس والطقس المتوقع في كل مرحلة من الطريق، في خطوة استباقية لضمان استعداد الحجاج لأي طارئ.
تُظهر هذه الإصلاحات المتتالية، الممتدة من الحرم المكي إلى الطرق البرية، عمق رؤية الملك عبدالعزيز في جعل خدمة الحجاج أولوية استراتيجية منذ فجر الدولة السعودية الثالثة، وهي الأسس التي بنت عليها المملكة العربية السعودية رؤيتها الحالية في تطوير الحج والعمرة، لتصبح نموذجًا عالميًا يُحتذى به في إدارة الحشود، وتوفير الأمن والراحة لضيوف الرحمن.
يمكنك أن تقرأ أيضًا:
مشعر منى.. إرث النبوة الخالد و تجسيد لسنن المرسلين
إنفوجرافيك| “المقر”.. لماذا سميت حضارة الـ9 آلاف عام بهذا الاسم؟