مايو ١٠, ٢٠٢٥
تابعنا :
نبض
logo alelm

رحلة المقاهي السعودية من الهامش إلى قلب المدينة

مايو ١٠, ٢٠٢٥
رحلة المقاهي السعودية من الهامش إلى قلب المدينة

سجّلت المقاهي السعودية تاريخًا من التحولات الثقافية والاجتماعية بالمملكة، فبالعودة إلى عصر تأسيس الدولة، نجد أن الناس اعتبروا المدن قرى كبيرة، ولم تكن الأحياء سوى امتداد لأسر تعرف بعضها، لذا كانت فكرة المقهى تبدو نشازًا على السمع، فاللقاء في المجتمعات التقليدية لم يكن أمرًا يُترك للمصادفة، فكل شيء كان يتم داخل حدود مأمونة، مثل مجالس البيوت، والمزارع، والمساجد، أما أن يجلس الإنسان مع غريب لمجرد احتساء فنجان قهوة أو تبادل حديث عابر، فتلك كانت فوضى اجتماعية لا يمكن تقبّلها بسهولة.

بدايات المقاهي السعودية

عرفت المقاهي قديمًا في السعودية باسم “القهاوي”، وبدخولها البلاد تغيّر المشهد، لا كتحوّل حضري فقط، بل كتغير ثقافي عميق في فكرة اللقاء والمجال العام، وقد بدأت تُطل برأسها أولًا في الحجاز ثم تسللت إلى الرياض، ولم تكن مجرد أماكن لشرب القهوة أو تدخين الشيشة، بل كانت تغيّرًا جوهريًا في منظومة العلاقات الاجتماعية السعودية.

دخلت المقاهي إلى الحجاز أولًا بعد سنوات من المنع الرسمي، حيث كانت تُعد منكرًا يُخشى منه أكثر مما يُرتجى منه، وتأخر وصولها إلى نجد بسبب ضغط الفتاوى، لكن سرعان ما بدأت تنتقل إلى الرياض بطريقة هادئة ومنمقة، تستعير من النموذج الحجازي بعض شكله وطقوسه، بدءًا من جلسات “المركاز” الخارجية، مرورًا بتقديم الشيشة والشاي وبعض الأطباق الخفيفة، وصولًا إلى تحولها في الليل إلى مبيت للكدادة، وهم أولئك السائقين الذين يجوبون الطرق بين المدن ويبحثون عن مأوى مؤقت في أطراف العاصمة.

بعض أشهر المقاهي السعودية التاريخية

كان حضور المقاهي في الأطراف مقصودًا، فهي لم تجد لنفسها موطئ قدم في قلب الأحياء العائلية المحافظة، ولهذا اشتهرت قهوة “العويد” على طريق خريص، كمدخل شرقي لمدينة الرياض، حيث كان أصحاب سيارات الأجرة يرتادونها بعد رحلات طويلة بين المدن، فيجلسون، يستريحون، يدخنون الشيشة، وربما ينامون على الكراسي الخشبية الطويلة التي كانت تُؤجَّر بريال أو ريالين، ويُعطى معها لحاف يُعرف شعبيًا بـ “الكمبل” ووسادة خفيفة.

تكررت الصورة ذاتها في جنوب الرياض، عند “قهوة الكيلو ستة”، الواقعة على طريق ديراب، حيث كانت تقف على حدود لوحة كتب عليها: “نتمنى لك سفرًا سعيدًا”، كأنها تودّع الداخل وتستقبل الخارج في آن.

وفي مناطق وسط العاصمة، كانت هناك مقاهٍ مثل “قهوة الشميسي” مقابل مستشفى الولادة، التي كانت تفتح ذراعيها للبسطاء وبعض الأدباء الذين يفضلون الصمت على الضوء، وعلى رأسهم عبدالله نور.

في قهوة “دوار سميرا ميس” في البطحاء، ارتبط اسم المكان بفندق قديم لا يعرف الناس الكثير عن تفاصيله، لكنه يُستحضر اليوم كجزء من ذاكرة لا توثقها إلا الحكايات.

وفي تلك الأماكن، كانت الطلبات محددة ومكرورة، تحفظها ألسنة العاملين وترددها بنغمات مميزة: “براد أبو أربع”، “براد أبو ستة”، “براد أبو عروة”، ومعها شاي بالحليب، وبسكويت “أبو ميزان” كتحلية متواضعة.

دور المقاهي السعودية الاجتماعي

لم تكن المقاهي السعودية مجرد مرافق خدمية، بل أدت دورًا اجتماعيًا بالغ الأهمية، فقد وفرت أول مجال عام يسمح باللقاء العفوي بين الغرباء، وسماع الآراء المختلفة، وتبادل الشائعات والنقاشات، دون الحاجة إلى سابق معرفة، وهذا ما لم يكن متاحًا في الفضاءات التقليدية؛ لذا قدمت المقاهي نموذجًا جديدًا من العلاقات قائمًا على التوافق الثقافي، لا على القرابة أو النسب أو الجيرة.

ومع ذلك، رسخت المقاهي في الذاكرة الجمعية كرمز سلبي يرتبط بالبطالة، والتحرش، والتدخين، والشيشة، بل كاد يتم نفيها اجتماعيًا ودينيًا، وتم طردها إلى خارج النطاق العمراني، كما حدث مع مقهى الطائف في حي ابن بكر، الذي أغلقه الأهالي بصك شرعي بعد أن اعتبروا أنه يعيق حركة النساء ويسيء للبيئة الأخلاقية للحي، ووصل الأمر إلى المفتي العام الشيخ محمد بن إبراهيم الذي أيد الحكم وأكده بقوله إنه واضح كوضوح الشمس.

عودة المقاهي السعودية بأناقة

رغم ما واجهته المقاهي السعودية من محاربة، فقد عادت بوجه جديد في التسعينيات الميلادية، لكنها واجهت رفضًا أوليًا من الجيل القديم بسبب الصورة الذهنية السلبية التي التصقت بها، لكن بعد العام 2000، تحوّلت المقاهي إلى ظاهرة ثقافية واجتماعية واقتصادية كبرى. دخلت العلامات العالمية، وبدأت موجة “الفرانشايز” تسيطر على المشهد، وتحولت المقاهي من أماكن “للشيشة” إلى أماكن “للواي فاي”، ومن ملتقى الكدادة إلى مكاتب عمل حرة للنخبة.

ورغم أن هذه المقاهي الحديثة بدت في البداية مستوردة ثقافيًا، فقد استطاع بعض المستثمرين السعوديين أن يخلقوا توازنًا جديدًا، من خلال مقاهٍ تراثية بطابع محلي، تقدم دلة القهوة، وجلسات طينية، وتستحضر روح المكان في هيئة معاصرة.

نجحت هذه المقاهي، التي تجمع بين الطابع الشعبي واللمسة الحديثة، في جذب الجيل الجديد وحتى الأجانب المقيمين، وأثبتت أن للمقهى السعودي روحًا لا تموت، بل يمكن بعثها من جديد في هيئة أكثر إشراقًا.

وبدو المقاهي السعودية اليوم وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها، بين التاريخ والحداثة، بين المركاز والماكياتو، وبين الدلة والكابتشينو، حيث لم تعد مجرد أماكن للجلوس، بل باتت مرايا لتحولاتنا الاجتماعية، ومعابر لهويتنا، وساحات للبوح والتلاقي والمشاهدة.

شارك هذا المنشور:

السابقة المقالة

18 صناعة ستغيّر وجه الاقتصاد العالمي في 2040

المقالة التالية

المضادات الحيوية قد تزيد من وزن طفلك!

المقالات المشابهة

قصيباء والجواء: صخرة عنترة الشاهدة على أشهر قصة حب
مايو ٩, ٢٠٢٥
أشهر 4 أكاذيب حول التاريخ الإسلامي
مايو ٥, ٢٠٢٥
أفلام غيرت القانون: من مصر إلى اليابان
أبريل ١٨, ٢٠٢٥ 190 مشاهدات
تعزيزًا لهوية المملكة.. الثقافة تطلق “الخط الأول” و”الخط السعودي”
أبريل ١٦, ٢٠٢٥ 235 مشاهدات
إنفوجرافيك| رسوم ترامب الجمركية.. أعلى زيادة ضريبية في 4 عقود
أبريل ١١, ٢٠٢٥ 327 مشاهدات
حي أم سليم.. شاهد على التحولات الاجتماعية والاقتصادية في الرياض
أبريل ٦, ٢٠٢٥ 451 مشاهدات

الأكثر مشاهدة

الإياب.. موعد مباراة برشلونة وبوروسيا دورتموند والقنوات الناقلة والتشكيل المتوقع
إنفوجرافيك| الدول التي لديها أكبر عدد من المفاعلات النووية
موعد مباراة ريال مدريد وأتلتيك بيلباو والتشكيل المتوقع والقنوات الناقلة
موعد مباراة مانشستر يونايتد وليون والقنوات الناقلة والتشكيل المتوقع
قبل سارة خليفة.. مشاهير قبض عليهم بتهم تتعلق بالمخدرات!
روسيا وأوكرانيا في الكتاب المقدس.. ما علاقة إسرائيل؟