شكّل الشاعر السوري نزار قباني، ظاهرة أدبية وشعرية مُعاصرة انضمت إلى عباقرة الشعر العربي على مر العصور، لما اتصف به من العبقرية والنبوغ الشعري الذي جعله فارساً للكلمة الرومانسية، ومنحه أجنحة بلا ريش على بها في سماء الإبداع، فجعل من يقرأ له يلامس القمر ويداعب النجوم باتساع خياله وجزالة مفرداته.
أثار شعر قباني، الإعجاب والحب مثلما أثار الضجيج أيضاً، فقد عرفه الرجال والنساء والكبار والصغار، لما قدمه من 35 ديواناً وكتاباً مثلت شجون الإنسان العربي.
المولد والنشأة
وٌلد نزار قباني، في 21 آذار عام 1923م، في حي “مئذنة الشحم”، وهو أحد أحياء مدينة دمشق القديمة، لأب كان من أعيان البلد وزعيماً وطنياً، حيث تربى في بيت دمشقي أصيل تزينه حديقة من الياسمين الأبيض والورد الأحمر وشجر الليمون ويتوسطها نافورة مياه تضفي حياة للمكان، ما أكسب الطفل «نزار» حينذاك جانب التأمل وعشق السكينة فكان جل أحلامه أن يصبح شاعراً يوماً ما على خطى عم والده أبو خليل القباني الشاعر المعروف، والمؤلف، والملحن، ورائد المسرح العربي في القرن التاسع عشر.
أتم «قباني» تعليمه الابتدائي والثانوي في الكلية العلمية الوطنية في دمشق، التي كانت تنتهج نهجاً دراسياً حديثاً حينذاك، بأن جعلت من اللغة الفرنسية هي اللغة الثانية بالدراسة واستقدمت من أجل ذلك معلمين فرنسيين؛ مما كان له أثر كبير في تعليم تشرب قباني للأدب الفرنسي والثقافة الأوروبية بجانب إتقانه للغة العربية وآدابها.
بدايته الشعرية
اتصف «نزار» قباني، بميوله للرسم والموسيقى منذ نعومة أظافره، لكن نقطة البداية التي انطلق بها في عالم الشعر الإبداعي الذي كان يميل له بشكل كبير، كانت حين سافر في رحلة مدرسية بحرية إلى روما، وعمره 16 عاماً، فشاهد الدرافيل تداعب أمواج البحر حول الباخرة، وأثناء استمتاعه بهذا المشهد وسط سكينة البحر، كتب أول أبياته الشعرية حتى لا ينساها مع مضي الزمن، وقرّر ألا يُطلع عليها أصدقائه كأول تجربة شعرية له.
والتحق بعد ذلك بكلية الحقوق عام 1941م، وأثناء الدراسة فيها، تدفقت موهبته الشعرية وكانت أهم قضاياه هي قضية المرأة، وأثناء دراسته الجامعية أصدر أول دواوينه الشعرية على نفقته الخاصة بعنوان “قالت لي السمراء” الذي أثار جدلاً واسعاً بسبب أسلوبه المختلف في تناول المرأة، حيث وصف قباني هذا الهجوم، قائلاً: “لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون، وكان لحمي يومئذ طرياً”.
وسرعان ما تفجر النبع الشعري لـ«قباني»، الذي لم يبلغ العشرين من عمره في ذلك الوقت، حيث أصدر قصيدة جديدة بعنوان «خبز وحشيش وقمر»، ينتقد فيها بعض سلوكيات الناس؛ ما أثار سجالاً واسعاً ضد الشاب الموهوب ما بين مؤيد له ومعارض لما طرحه.
وهج أدبي
تخرج الشاب الوسيم الأنيق الرشيق الرقيق نزار قباني، من كلية الحقوق عام 1945م، ليعمل في السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية، حيث عين في سفيارة عدة دول، منها القاهرة التي كانت وقتها في ذروة نشاطها الثقافي والصحافي والإذاعي، وقد أتاح له هذا العمل التنقل بين دول عديدة.
وفي القاهرة، كان ميلاد «قباني»، كشاعر جديد وسط بيئة تحفل بقامات أدبية وثقافية مثل أحمد حسن الزيات، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، ومصطفى صادق الرافعي، ونجيب محفوظ، وعبدالقادر المازني، وغيرهم، حيث انضم إليهم قباني بإصداره ديوان بعنوان «طفولة نهد»، حيث عرضه على 3 من نجوم الفكر والثقافة في ذلك الوقت وهم توفيق الحكيم وكامل الشناوي وأنور المعداوي، حيث تحمس له الأخير كثيراً ولكنه طلب منه تغيير العنوان إلى «طفولة نهر» لكي يتمكن من نشره في مجلة الرسالة التي يرأسها الأديب أحمد حسن الزيات، وبالفعل تم نشرها، فقال قباني عن ذلك: “لقدر أرضى المعداوي صديقه الزيات وقراء مجلة الرسالة المحافظين الذي تخيفهم كلمة النهد وتزلزل وقارهم، ولكنه ذبح اسم كتابي الجميل من الوريد إلى الوريد”.
الكتابة السياسية
رغم وهج وظيفة «قباني» المرموقة ومكانتها، إلا أن عشقه للشعر دفعه للاستقالة منها عام 1966م، واستقر في لبنان، لكي يتفرغ للكتابة الأدبية، حيث أسس دار نشر خاصة بأعماله سماها “منشورات نزار قباني”.
وتعرض لـ «قباني»، لانعطافة جذرية في شعره في عام 1967م، حين تحول من شاعر المشاعر النسائية إلى شاعر سياسي، حيث كتب قصيدة بعنوان “هوامش على دفتر النكسة” عن “نكسة يونيو عام 1967م” -التي احتلت بها إسرائيل سيناء المصرية وأراضي سورية-؛ فسرعان ما لاقت قصيدته انتشاراً واسعاً أدى لغضب الشاعر الكبير ناصر جودت، الذي شن ضدها هجوماً عنيفاً، مطالباً بمنع نشر أعماله في مصر.
وترافق غضب «جودت» مع حملة استهدفت شخص قباني من قبل منافسيه جراء نجاحه في مجال تأليف الأغاني مثل الأغنيتين الشهيرتين “أيظن” و”ماذا أقول له” اللتين غنتهما الفنانة المصرية نجاة، ولحنهما الموسيقار الشهير محمد عبدالوهاب.
وبالفعل نجحت الحملة الإعلامية ضد «قباني»، فصدر ضده قراراً بمنع أغانيه وأشعاره من البث خلال التلفزيون المصري، كما مُنع اسمه نهائيا، وصدر في الكتمان قرار بمنعه من دخول مصر، لكن قباني العاشق لمصر شعر بأن هذه الأحكام بمثابة حكم بإعدامه.
فأرسل رسالة مؤثرة للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، قال فيها: “سيادة الرئيس, في هذه الأيام التي أصبحت أعصابنا فيها رمادا وطوقتنا الأحزان من كل مكان, يكتب إليك شاعر عربي, يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم. وتفاصيل القصة أنني نشرت في أعقاب النكسة قصيدة عنوانها “هوامش على دفتر النكسة”, أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي, وكشف فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية, لاقتناعي بأن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب, وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا. واذا كانت صرختي حادة وجارحة, وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك, فلأن الصرخة تكون في حجم الطعنة, ولأن النزيف بمساحة الجرح. ومن منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟ من منا لم يخدش السماء بأظافره؟ من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟ أن قصيدتي كانت محاولة لتقييم أنفسنا كما نحن.”
وختم رسالته بقوله: “يا سيادة الرئيس, لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه, والمجروح على جراحه ويسمح باضطهاد شاعر عربي يريد أن يكون شريفا وشجاعا, في ظل مواجهة نفسه وأمته, فدفع ثمن صدقه وشجاعته. يا سادة الرئيس, لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك.
نجحت الرسالة في إلغاء القرارات التي اتخذت ضد قباني، لتعود أغانيه تُردد من جديد في الإذاعة والتلفزيون، فهذا ما وصفه قائلاً:” كسرت الحاجز بين السلطة والأدب”، وفقاً لموقع “نزاريات”.
مميزاته الشعرية
أبحر نزار قباني، بسفينة الشعر في بحار الحب والتجديد والإبداع الفكري، كما جعل قلمه سلاحاً للدفاع عن القضايا العربية ضد أعدائها والمتربصين بها، وتميزت لغته الشعرية بالوسطية والفصاحة والعامية المشافهة الدارجة على الألسنة، ما جعل شعره يحاكي لغة الشارع العربي.
واتصفت عباراته بالبعد عن التعقيد والغرابة، إذ استمدها من الحياة اليومية، واللغة المحكية التي لا تحتاج إلى شرح معانيها، فقال عنها: “لم أسـقط القاموس كله مـن حسابي، لأنّ اغتيال لغة بأكملها هو نوع من الجرائم المستحيلة، أنا قتلت من المفردات ما هو مقتول فعلاً، أي المفردات التي تصلبت شرايينها وتخشبت مفاصلها، ولم تُعدّ قادرة على المشي أو عـلى الكلام.. ومهمتي كشاعر أن ألتقط الشعر من أفـواه الناس وأعيـده إليهم”.
وتميز بتنويع القافية وعدم الالتزام على الوزن التقليدي القائم على قافية واحدة، فهذا ما تناسب مع إيقاع الحياة المعاصرة وتطور الأدوات الفنية للشعر، ما يدل على مدى وعي قباني وتمكنه من أدواته الفنية، فضلاً عن عمق تجاربه الحياتية. كما استخدم التكرار الصوتي كعامل فني جديد دخل إلى مضمار القصيدة الحديثة، ما من شأنه إحداث نغمة موسيقية مؤثرة في نفس السامع.
جوائز عديدة
حصل نزار قباني على العديد من الجوائز والأوسمة العربية والدولية، ومنها: وسام الجمهور من المحيط إلى الخليج وهو أرفع وسام حصل عليه، ووسام الاستحقاق الثّقافي الإسباني عام 1964م، وجائزة سلطان بن علي العویص للإنجاز العلمي والثقافي، وسام الغار قدمه له النّادي السوري الأمريكي في بلدیة دمشق، ومیدالیة التّقدیر الثقافي من الطبیّة العربیّة الأمريكية، وجائزة جبران العالمية، قدمتها له رابطة إحیاء التّراث العربي، في سيدني، أستراليا.
وفاته
توفي الشاعر نزار قبّاني، في لندن بانجلترا، في يوم الخميس بتاريخ 30 إبريل عام 1998م، وقد نُقِل جثمانه إلى سوريا حيث دفن في دمشق في مقابر العائلة بناءً على وصيته التي قال فيها يصف دمشق: “هي الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع، وأهداني أبجدية الياسمين.. وهكذا يعود الطائر إلى بيته، والطفل إلى صدر أمه”، وهكذا انتهت رحلته تاركاً خلفه إرثاً غزيراً من المؤلفات الأدبية والشعرية.
يثير الجدل حياً وميتاً.. قصة انتحار هتلر وزوجته
في «يوم المهندس الخليجي».. قصص نجاح أشهر المهندسين الخليجيين
العبقري الصغير .. عمره 13 عامًا ويستعد للحصول على الدكتوراه في الفيزياء