تمكَّن علماء النفس من إثبات إمكانية التخفيف من حدة اضطراب الشخصية النرجسية عبر علاجات نفسية متخصصة، رغم استحالة القضاء عليه نهائيًا، مما يفتح باب الأمل أمام تحسين العلاقات الإنسانية التي غالبًا ما تتأثر بهذا الاضطراب.
وتشير الدراسات الحديثة، المنشورة في مجلة «Journal of Personality Disorders»، إلى أن بعض سمات النرجسية قد تتراجع مع تقدم العمر، بينما تظل الأعراض الأكثر حدة، كالغرور وانعدام التعاطف، مرتبطة باضطراب الشخصية النرجسية (NPD) الذي يصنّف كحالة نفسية مزمنة في دليل الجمعية الأمريكية للطب النفسي «DSM-5-TR».
ما الفرق بين السمة والاضطراب؟
يوضح الدكتور لوري هولمان، المحلل النفسي والأخصائي الاجتماعي في «كولد سبرينج هاربور» بنيويورك، أن النرجسية تتدرج على نطاق يبدأ من انخفاض تقدير الذات ويمتد إلى الاعتلال النفسي، مرورًا بما أسماه بـ«النرجسية الصحية» التي تدفع الشخص للنجاح بثقة متوازنة.
يتفاوت حضور النرجسية بين الأفراد، إذ تظهر أحيانًا كصفة شخصية لا تتطلب علاجًا، مثل اعتزاز المرء بإنجازاته أو إعجابه بمظهره، لكنها قد تتطور لدى البعض إلى اضطراب نفسي يتمثل في تضخم الذات، والحاجة المفرطة للإعجاب، والافتقار إلى التعاطف، مما يعكر صفو العلاقات الاجتماعية.
وفقًا للمعالجة النفسية لينا ديرهالي، من واشنطن، فإن النرجسية الصحية تتوسط هذا الطيف، وتُقدرها على مقياس من 1 إلى 10 بدرجات تتراوح بين 5 و6، حيث يُظهر الشخص ثقة بقدراته مع احترامه لمشاعر الآخرين، بينما تتجلى النرجسية المرضية عند بلوغ الطرف الأعلى من المقياس، حين تغلب على الفرد نزعات الغطرسة والأنانية.
هل يمكن علاج النرجسية؟
يُقرُّ خبراء الصحة النفسية بأن علاج اضطراب الشخصية النرجسية يظل تحديًا صعبًا، إذ غالبًا ما يتعذر على المصاب إدراك تأثير تصرفاته على الآخرين. بينما ترى الدكتورة هولمان أن بعض المرضى يُبدون تحسنًا حين يُواجهون بلطف بحقيقة انعزالهم نتيجة غطرستهم. ومع اكتسابهم وعيًا ذاتيًا، يصبحون قادرين على فهم دوافعهم وتطوير تعاطفهم مع المحيطين.
ويشير الباحثون إلى أن نجاح العلاج يرتبط بمدى استعداد الشخص للاعتراف بمشكلاته. فمن يمتلك وعيًا جزئيًا باضطراباته يكون أكثر استجابة للعلاج مقارنة بمن ينكرها. وتوضح ديرهالي أن «الأشخاص الذين يحملون صفات نرجسية بسيطة يستجيبون بصورة أفضل مقارنة بمن يعانون من اضطراب شخصي مكتمل».
ما أساليب العلاج المتاحة؟
تنوعت مدارس العلاج النفسي التي تهدف إلى التخفيف من أعراض النرجسية، منها:
-
«العلاج الجدلي السلوكي» الذي يركز على ضبط المشاعر وتحسين العلاقات.
-
«العلاج القائم على العقلنة» الذي يساعد على إدراك الفروق بين مشاعر الذات والآخرين.
-
«العلاج التحليلي عبر النقل» الذي يستخدم العلاقة بين المريض والمعالج لتعديل التصورات المشوهة عن الذات والآخر.
-
«العلاج التخطيطي» الذي يكشف أنماطًا راسخة منذ الطفولة نتجت عن إهمال عاطفي.
-
«علاج الجشتالي» الذي يركز على إدراك الفرد لسلوكياته في اللحظة الراهنة.
ويقول أكد الدكتور بيتر فوكس، أستاذ العلاج النفسي بجامعة لندن، إن نجاح هذه العلاجات يتوقف على قدرة المعالج على بناء علاقة ثقة مع المريض، لافتًا إلى أن التحدي يكمن في تجاوز حائط الدفاع النرجسي الذي يحجب المشاعر الحقيقية.
لماذا يستعصي العلاج أحيانًا؟
رغم وجود هذه الوسائل، يظل الإقبال على العلاج محدودًا. فالعديد من المصابين لا يعترفون بوجود مشكلة، بينما يلجأ آخرون للعلاج فقط استجابة لضغوط اجتماعية، مثل تهديد شريك بالانفصال، أو مواجهة أزمة مهنية. وقد أشارت دراسة نشرتها «American Journal of Psychiatry» إلى أن النرجسيين غالبًا ما ينسحبون من الجلسات العلاجية مبكرًا لشعورهم بأن الاعتراف بالضعف ينتقص من مكانتهم.
ويؤكد المعالج النفسي الدكتور جوناثان براون أن هذه الصعوبات تتفاقم بفعل وصمة العار الاجتماعية المرتبطة بالاضطرابات النفسية، مما يدفع الكثيرين إلى إنكار حاجتهم إلى المساعدة.
هل تُؤتي العلاجات أكلها؟
تكشف تجارب بعض المرضى عن تحسن ملحوظ عقب سنوات من العلاج. فقد أفاد «مارك ب.»، وهو مريض تلقى علاجًا تخطيطيًا لمدة خمس سنوات، بأنه بات أكثر وعيًا بمشاعره، وأصبح قادرًا على بناء علاقات أكثر استقرارًا، رغم إقراره بأن التخلص من بعض سمات التكبر استغرق وقتًا طويلًا.
ويرى الأطباء أن التقدم يعتمد على عدة عوامل، أبرزها سن المريض ومدى عمق أنماط السلوك النرجسي المتجذرة لديه. وقد أظهرت دراسة منشورة في «Personality and Mental Health» أن الأشخاص في منتصف العمر أكثر قابلية للتغيير مقارنة بمن تجاوزوا الستين.
هل يختفي الاضطراب مع تقدم العمر؟
يشير الباحثون إلى أن بعض سمات النرجسية تتضاءل طبيعيًا بمرور الوقت. إذ أوضحت دراسة طويلة الأمد، أجرتها جامعة «ميشيجان»، أن مستويات السعي وراء الإعجاب والاستعلاء تنخفض مع اقتراب الشخص من الشيخوخة، ربما نتيجة التعرض لتجارب فقد وخيبات أمل تقلص من شعوره بالتميز.
إلا أن الدكتور ديفيد بوكر، المختص في علم النفس الإكلينيكي، حذّر من أن هذا التراجع لا يعني الشفاء التام، بل قد تتوارى الأعراض خلف أساليب تعايش مختلفة، مشيرًا إلى أن بعض النرجسيين يتحولون إلى أشخاص أكثر استبدادًا داخل نطاق الأسرة مع تقدمهم في العمر.
هل يمكن الوقاية؟
يرى الأخصائيون أن تنشئة الأطفال على التعاطف وتعزيز تقدير الذات بصورة متوازنة قد تساهم في تقليص احتمالية تطور سمات نرجسية مَرَضية لاحقًا. وقد دعا الدكتور ريتشارد وايزمان، من جامعة «هيرتفوردشاير»، إلى ضرورة تعليم الأبناء التعبير عن مشاعرهم، مع تشجيعهم على تقبل النقد، معتبرًا ذلك درعًا واقيًا يحول دون تضخم الذات في المستقبل.
وفي المحصلة، رغم تعقيد اضطراب الشخصية النرجسية، فإن الانفتاح على العلاج وبناء الوعي الذاتي يُمهّدان الطريق أمام المصابين للتصالح مع أنفسهم والآخرين، فيما يظل التشخيص المبكر والتدخل النفسي السليم حجر الأساس لتخفيف وطأة هذا الاضطراب.