بعد ما يقرب من 80 عامًا من كون الولايات المتحدة العمود الفقري لحلف الناتو، تواجه أوروبا الآن احتمال تراجع دور واشنطن في التحالف.
التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أشار فيها إلى عدم التزامه بالدفاع عن حلفاء الناتو “إذا لم يدفعوا”، إلى جانب تقاربه مع فلاديمير بوتين وعدائه العلني للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أثارت قلقًا عميقًا بين القادة الأوروبيين بشأن استمرارية التحالف في صورته التقليدية.
لكن هل يمكن لأوروبا أن تصمد دون الولايات المتحدة؟ وفقًا للخبراء، الناتو بدون واشنطن ليس عديم القوة، إذ يضم الحلف أكثر من مليون جندي وأحدث الأسلحة، إلى جانب القوة الاقتصادية والتكنولوجية اللازمة للدفاع عن القارة.
إمكانيات أوروبا لسد الفراغ الأمريكي
تشير بيانات الناتو إلى أن الولايات المتحدة وألمانيا هما أكبر مساهمين في ميزانية الحلف بنسبة 16% لكل منهما، تليهما المملكة المتحدة 11%، وفرنسا 10%.
ويرى المحللون أن أوروبا، إذا قررت توحيد جهودها واستثمار مواردها بشكل صحيح، يمكنها تشكيل قوة ردع قوية ضد روسيا، سواء على المستوى التقليدي أو النووي.
يقول بن شريير، المدير التنفيذي لمعهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS)، إن أوروبا لديها القدرة على حشد الموارد اللازمة للدفاع عن نفسها، لكن السؤال الأهم هو: هل لديها الإرادة السياسية للقيام بذلك؟
التاريخ العسكري لحلف الناتو
على مدار 75 عامًا، كانت الولايات المتحدة القوة التي أبقت الناتو متماسكًا، بدءًا من تمركز قواتها في أوروبا خلال الحرب الباردة لكبح جماح الاتحاد السوفيتي، إلى قيادتها العمليات العسكرية في البلقان في التسعينيات. وحتى يناير 2025، كانت واشنطن تقود دعم أوكرانيا ضد روسيا.
لكن هذا التضامن العابر للأطلسي قد يكون في طريقه إلى الانهيار. وفقًا لـ دان فريد، الدبلوماسي الأمريكي السابق وزميل المجلس الأطلسي، فإن قرار ترامب وقف المساعدات لكييف لم يكن مجرد قطيعة مع أوكرانيا، بل مع عقيدة “العالم الحر” التي تبنتها الإدارات الأمريكية من ترومان إلى ريغان.
من جانبه، يرى جون لوغ، المسؤول السابق في الناتو والباحث في مركز تشاتام هاوس، أن “الولايات المتحدة لم تعد ترى أوروبا حليفًا، بل منافسًا”. وبالنسبة له، فإن الالتزام الأمريكي بالدفاع عن الناتو أصبح محل شك كبير، وربما لا يمكن إصلاحه.
الناتو بدون الولايات المتحدة
يرى بعض المحللين أن انسحاب أمريكا من الناتو قد يدفع الدول الأوروبية لتعزيز قدراتها الدفاعية، مما قد يجعل الحلف أكثر قوة وليس أضعف.
ويقول موريتز غرافيرات، الباحث في معهد ويليام وماري للدراسات الأمنية: “بمجرد أن يدرك الحلفاء أنهم لم يعودوا قادرين على الاعتماد على الولايات المتحدة، فسوف يسارعون إلى سد الفجوة وتطوير قدراتهم العسكرية.”
رئيس وزراء بولندا، دونالد توسك، يؤكد أن أوروبا بدأت بالفعل هذا التحول، قائلاً: “نحن قادرون على مواجهة روسيا عسكريًا واقتصاديًا وماليًا – فقط كان علينا أن نبدأ بالإيمان بذلك، ويبدو أن هذا ما يحدث الآن.”
القوة العسكرية الأوروبية
إذا قررت أوروبا الاعتماد على نفسها، فهل لديها القدرات العسكرية الكافية؟ وفقًا لتقرير التوازن العسكري 2025، تمتلك تركيا، العضو في الناتو، 355,200 جنديًا، تليها فرنسا 202,200، ألمانيا 179,850، بولندا 164,100، إيطاليا 161,850، والمملكة المتحدة 141,100.
أما على مستوى المعدات، فتمتلك بريطانيا وفرنسا حاملات طائرات متطورة، بينما تمتلك أوروبا أكثر من 2,000 مقاتلة وقاذفة هجومية، من بينها مقاتلات F-35 الشبحية.
كما تتوفر لديها ترسانة نووية في بريطانيا وفرنسا، وصواريخ كروز متطورة مثل SCALP/Storm Shadow التي أثبتت فعاليتها في ساحة المعركة الأوكرانية.
كما بدأت الدول الأوروبية في تنويع مصادر التسلح، حيث تعاقدت مع دول مثل البرازيل وكوريا الجنوبية لتأمين احتياجاتها العسكرية بعيدًا عن الولايات المتحدة.
هل يمكن لواشنطن أن تعود بعد الانسحاب؟
حتى في حال انسحاب الولايات المتحدة من الناتو، لن يكون ذلك بالضرورة انسحابًا نهائيًا. يقول غرافيرات إن أمريكا ستترك وراءها بنية تحتية عسكرية ضخمة، تشمل 31 قاعدة دائمة في أوروبا، مما يتيح لها العودة سريعًا إذا لزم الأمر.
البعض يرى أن حديث ترامب عن الانسحاب من الناتو مجرد تهديد للضغط على الحلفاء لزيادة إنفاقهم الدفاعي، كما حدث مع كوريا الجنوبية خلال فترة رئاسته الأولى، عندما لوّح بسحب القوات الأمريكية من هناك دون تنفيذ ذلك فعليًا.
إذا لم يحصل ترامب على التنازلات التي يريدها من بوتين، فقد يعود إلى دعم الناتو كما فعلت الإدارات السابقة، لكن إلى ذلك الحين، تظل أوروبا أمام مفترق طرق: إما تعزيز استقلالها العسكري، أو مواجهة مستقبل غامض في ظل غياب الضمانات الأمريكية.