تعاني صناعة الشحن العالمية من نقص حاد في أعداد البحارة المؤهلين، مما يعرقل عملياتها الأساسية ويؤثر بشكل مباشر على حركة التجارة الدولية، ويؤدي إلى زيادة المخاطر في البحر، وارتفاع تكاليف الشحن، وقد يهدد استدامة الصناعة.
وهو وضع تفاقم بفعل مزيج من الأزمات الجيوسياسية والصعوبات المرتبطة بالتوظيف وجذب الكفاءات، فخلال السنوات الأخيرة، شهدت صناعة الشحن العالمية ازدهارًا كبيرًا في عدد السفن الجديدة التي دخلت الخدمة سنويًا، ما يعكس توسعًا سريعًا في التجارة العالمية، لكن هذا النمو لم يصاحبه ارتفاع موازٍ في أعداد البحارة المؤهلين.
ويقول ريت هاريس، كبير محللي الموارد البشرية في شركة «درويري»، وهي مؤسسة استشارية وبحثية عالمية متخصصة في قطاع النقل البحري وسلاسل التوريد، إن الشركات باتت تواجه ضغوطًا كبيرة لتوظيف بحارة أقل خبرة. هذا الأمر، بحسب هاريس، يؤثر سلبًا على الكفاءة التشغيلية للسفن، وخاصة في المناصب العليا والهندسية التي تعاني من نقص أكبر مقارنة بضباط السطح.
تأثير الأزمات الجيوسياسية على البحارة
تزيد الأوضاع الجيوسياسية الراهنة من تعقيد الأزمة، فالحرب الروسية الأوكرانية، على سبيل المثال، أدت إلى تراجع كبير في إمدادات البحارة المحترفين، حيث كانت روسيا وأوكرانيا تشكلان معًا حوالي 15% من القوى العاملة البحرية عالميًا قبل اندلاع النزاع في فبراير 2022.
ومع تحويل جزء كبير من القوى العاملة في كلا البلدين لتلبية احتياجات الحرب، انخفضت أعداد البحارة المتاحين للعمل. إلى جانب ذلك، تسهم الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر في زيادة التحديات، مما يجعل المهنة أقل جاذبية بسبب المخاطر المتزايدة.
كذلك لم تعد الملاحة البحرية مهنة ذات جاذبية كبيرة، خاصة بين الشباب، ويشير هنريك ينسن، الرئيس التنفيذي لمجموعة «دانكا» لخدمات التوظيف البحري، إلى أن البحارة يفضلون الآن الوظائف الشاطئية التي توفر استقرارًا وظيفيًا وحياة أقرب إلى الأسرة، في المقابل، يعاني الشباب، الذين نشأوا في عالم رقمي مترابط، من صعوبة التأقلم مع طبيعة الحياة في البحر، حيث الاتصالات محدودة وفترات الغياب طويلة.
وفي محاولة لجذب هذه الفئة، بدأت بعض الشركات البحرية في تحسين ظروف العمل على متن السفن، من حيث توفير مرافق ترفيهية وصالات رياضية، بالإضافة إلى تقليل مدة الرحلات البحرية لتتراوح بين شهرين وأربعة أشهر، ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر في إقناع الأجيال الجديدة بالتخلي عن أسلوب الحياة العصري والانخراط في مهنة تفرض قيودًا صارمة على التواصل والمرونة.
أزمة الرواتب
ومع ازدياد الطلب على الكفاءات البحرية، لجأت الشركات إلى رفع الرواتب لجذب البحارة، لكن هذا التوجه فتح الباب أمام ظاهرة مقلقة، حيث تزايدت حالات التزييف في السير الذاتية.
ويسعى بعض البحارة لتحسين مكانتهم الوظيفية ورواتبهم من خلال الادعاء بامتلاك خبرات لا يمتلكونها فعليًا. ويشير ينسن إلى أنه اكتشف آلاف السير الذاتية المزيفة، حيث كانت العديد من الادعاءات غير مدعومة بسجلات وظيفية موثوقة.
هذا الوضع لا يقتصر تأثيره على الشركات فقط، بل يمتد إلى السلامة البحرية، ويقول أحد قادة السفن العالمية، في تصريحات لـ«سي إن بي سي» شريطة عدم الكشف عن اسمه، إنه يواجه صعوبات كبيرة في العثور على أفراد طاقم مؤهلين. موضحًا أن «النقص كبير للغاية، وهذا يؤثر عليّ مباشرة. لا أجد أفرادًا مناسبين للطاقم».
خطوات لمواجهة الأزمة
ووفقًا للغرفة الدولية للشحن «ICS»، فإن العالم قد يواجه نقصًا يقدر بـ90 ألف بحار مدرب بحلول عام 2026 إذا لم تُتخذ تدابير عاجلة لمعالجة المشكلة.
ودعت المنظمة الحكومات إلى وضع استراتيجيات وطنية تهدف إلى تحسين برامج التدريب البحري وجذب المزيد من المواهب. وأكدت أهمية استقطاب قوة عمل متنوعة للحفاظ على استدامة الصناعة وضمان قدرتها على مواجهة التحديات المستقبلية.
وفي ظل هذا النقص الحاد، تجد صناعة الشحن نفسها أمام خيارين: إما إعادة هيكلة استراتيجياتها لتصبح أكثر جذبًا للأجيال الشابة، أو مواجهة خطر تعطيل سلاسل الإمداد العالمية. ومع اعتماد الاقتصاد العالمي بشكل كبير على حركة التجارة البحرية، فإن أي اضطراب كبير في هذا القطاع قد يلقي بظلال قاتمة على التجارة الدولية بأسرها.