تخوض بكين اليوم ما يوصف دوليًا بأنه مشروع مانهاتن الصيني، وهو جهد استخباري وتقني سري يهدف إلى كسر احتكار الغرب وتايوان لصناعة أشباه الموصلات المتقدمة، عبر بناء آلات معقدة كانت واشنطن تظن أن الحصول عليها سيتطلب عقودًا.
كيف ولد مشروع مانهاتن الصيني في مختبرات شينزين؟
كشفت تقارير حديثة عن نجاح علماء صينيين في بناء نموذج أولي لآلة تعمل بتقنية "الأشعة فوق البنفسجية العميقة"، وهي التقنية الأكثر تعقيدًا في العالم والتي تحتكرها شركة "ASML" الهولندية.
ويعد هذا الإنجاز جوهر مشروع مانهاتن الصيني، حيث تم بناء الآلة داخل مختبر سري عالي التأمين في مدينة شينزين، بمشاركة فريق من المهندسين السابقين في الشركة الهولندية العملاقة الذين تمت استمالتهم ببرامج إغراء مالي ضخمة.
نشغّل هذه الآلة، التي تم الانتهاء من نموذجها الأولي في أوائل عام 2025، طابقًا كاملًا في أحد المصانع، وتمثل التحدي المباشر والأكبر لسيطرة تايوان المطلقة على سوق الرقائق فائقة الدقة.
وتمثل تقنية EUV حجر الزاوية في "الحرب التقنية الباردة" الحالية؛ فهي تستخدم حزمًا ضوئية لرسم دوائر إلكترونية أنحف بآلاف المرات من شعرة الإنسان على رقائق السيليكون.
وبينما كانت التوقعات الغربية تشير أن الصين ستحتاج لسنوات طويلة لفك شفرة هذه التقنية، إلا أن مشروع مانهاتن الصيني أثبت قدرة بكين على اختصار الزمن عبر الهندسة العكسية والاستعانة بالخبرات الأجنبية.
ورغم أن الآلة لم تنتج رقائق صالحة للاستخدام التجاري بعد، إلا أن توليد ضوء الأشعة فوق البنفسجية داخل المختبر يعد خطوة مفصلية تعني أن بكين باتت على بعد سنوات قليلة من كسر السيادة التايوانية.
هيكلية مشروع مانهاتن الصيني السري
تدير بكين هذا الملف تحت إشراف مباشر من "اللجنة المركزية للعلوم والتقنية" التابعة للحزب الشيوعي، حيث يعتبر الرئيس شي جين بينغ أن تحقيق الاستقلال في مجال أشباه الموصلات هو الأولوية الوطنية القصوى.
ويطلق المطلعون على هذا البرنامج اسم مشروع مانهاتن الصيني نظرًا لحجم التعبئة والسرية المحيطة به، تمامًا كما فعلت الولايات المتحدة عند تطوير القنبلة الذرية في الأربعينيات.
وتلعب شركة "هواوي" دور المنسق الرئيسي لهذا المشروع، حيث تشرف على شبكة معقدة من الشركات والمعاهد البحثية، وتفرض على المهندسين نظام عمل صارمًا يشمل النوم داخل مقار العمل ومنع التواصل مع العالم الخارجي لضمان عدم تسريب الأسرار.
وبجانب "هواوي"، يشارك آلاف المهندسين في مشروع مانهاتن الصيني، ويتم منح المجندين الجدد، وخاصة من عادوا من العمل في شركات غربية مثل "ASML"، هويات مزيفة وأسماء مستعارة داخل المختبرات.
وتستخدم بكين كاميرات مراقبة فوق كل مكتب لتوثيق عمليات تفكيك وإعادة تجميع المكونات المستوردة من الأسواق الثانوية لقطع الغيار القديمة.
ويتمثل الهدف النهائي لهذا المشروع القومي في إخراج الولايات المتحدة والتقنيات الغربية بنسبة 100% من سلاسل التوريد الصينية، وهو ما يهدد بانهيار "درع السيليكون" الذي كانت تايوان تحتمي به أمام الضغوط العسكرية لبكين.
هل ينهي المشروع الصيني الهيمنة التايوانية؟
تعتمد تايوان في بقائها السياسي على هيمنتها الصناعية، حيث تنتج شركة "TSMC" التايوانية 92% من الرقائق المتقدمة في العالم.
ومع ذلك، فإن نجاح مشروع مانهاتن الصيني في الوصول إلى إنتاج محلي لهذه الرقائق بحلول عام 2030 قد يغير الحسابات الاستراتيجية بالكامل، فإذا تمكنت بكين من تأمين احتياجاتها العسكرية والمدنية من الرقائق بعيدًا عن المصانع التايوانية، فإن "قيمة الردع" التي توفرها تايوان للعالم ستتراجع بشكل حاد، مما قد يغري بكين بالإقدام على خطوات عسكرية أكثر جرأة تجاه الجزيرة، بعد أن تصبح محصنة اقتصاديًا ضد العقوبات الغربية في قطاع التقنية.
وعلاوة على ذلك، يمثل مشروع مانهاتن الصيني سباقًا مع الزمن؛ فتايوان تحاول البقاء متفوقة عبر تطوير أجيال جديدة من الرقائق، بينما تسعى بكين لتقليص الفجوة عبر "تطبيع" الضغوط العسكرية والسيبرانية.
وتدرك تايبيه أن قوتها تكمن في الاعتماد المتبادل، ولكن إذا نجحت بكين في فك هذا الارتباط وتحقيق الاكتفاء الذاتي، فإن تايوان ستفقد أهم ورقة ضغط دولية لديها في الصراع مع الصين.
تجنيد الخبرات في مشروع مانهاتن الصيني
تستند استراتيجية بكين في مشروع مانهاتن الصيني على "صيد العقول" من كبرى الشركات العالمية؛ إذ يتم تقديم مكافآت توقيع تتراوح بين 420 ألفًا و700 ألف دولار للمهندسين المهاجرين، بالإضافة إلى تسهيلات سكنية وجنسية مزدوجة سرية.
ونجحت الصين بالفعل في استقطاب قادة تقنيين مثل لين نان، المسؤول السابق عن تقنية مصدر الضوء في "ASML"، والذي قدم فريقه ثماني براءات اختراع في الصين خلال 18 شهرًا فقط.
جعلت هذه الحركة الكثيفة للأدمغة التقنية الاختراق الصيني ممكنًا، وهو ما دفع المخابرات الهولندية والغربية للتحذير من "برامج تجسس واسعة النطاق" تهدف لسرقة أسرار المشروع.
وتواجه شركة "ASML" صعوبة كبيرة في ملاحقة موظفيها السابقين قانونيًا، نظرًا للحماية التي توفرها لهم الحكومة الصينية تحت غطاء مشروع مانهاتن الصيني.
ويعد المهندسون الذين يعملون بأسماء مستعارة داخل مختبرات شينزين هم الجنود الحقيقيون في هذه المواجهة، وهم يطبقون خبراتهم التي اكتسبوها في هولندا لبناء "الآلة المستحيلة".
وبالنسبة لبكين، فإن شراء قطع الغيار من الأسواق الثانوية والمزادات الدولية، ثم إعادة هندستها، هو المسار الأسرع لامتلاك التقنية، وهو ما يجعل واشنطن تكثف ضغوطها على الحلفاء لسد الثغرات في رقابة الصادرات حتى على المعدات القديمة.
التحديات الفنية أمام مشروع مانهاتن الصيني
وبالرغم من هذا التقدم، لا يزال مشروع مانهاتن الصيني يواجه عقبات تقنية هائلة، لا سيما في مجال الأنظمة البصرية الدقيقة والمرايا التي تنتجها شركات مثل "كارل زايس" الألمانية، فآلات EUV تطلق الليزر على القصدير المنصهر 50 ألف مرة في الثانية لتوليد بلازما بحرارة 200 ألف درجة مئوية، وهو مستوى من الدقة يتطلب مرايا يستغرق تصنيعها أشهرًا ولا تملك الصين تكنولوجيتها بعد.
ومع ذلك، تؤكد المعاهد البحثية الصينية مثل "معهد تشانغتشون للبصريات" أنها حققت اختراقات في دمج الضوء داخل النظام البصري، مما يجعل النموذج الأولي جاهزًا للاختبارات المعمقة في عام 2025.
ويعتقد المحللون أن الهدف الصيني لإنتاج رقائق صالحة للعمل بحلول عام 2028 قد يكون متفائلًا جدًا، لكن عام 2030 يبدو موعدًا واقعياً لتحقيق استقلال جزئي.
كيف سيغير المشروع قواعد اللعبة؟
تمثل قدرة بكين على الصمود في وجه العقوبات عبر مشروع مانهاتن الصيني رسالة واضحة للعالم بأن "الحروب التقنية" لا تحسمها القرارات السياسية فقط، بل الإرادة العلمية والقدرة على التعبئة القومية.
وسيعني نجاح هذا المشروع نهاية الحقبة التي كانت فيها واشنطن تتحكم في مصير الصناعات العالمية عبر "بوابات التقنية".
وبالنسبة لتايوان، فإن هذا النجاح قد يكون بداية النهاية لمفهوم "درع السيليكون" كضمانة دولية، مما سيجبرها على إعادة التفكير في استراتيجياتها الدفاعية والسياسية، والبحث عن تحالفات أمنية أكثر صرامة لا تعتمد فقط على تفوقها في تصنيع الرقائق.














