منوعات

لماذا تسعى أستراليا لحظر وسائل التواصل الاجتماعي على أجهزة الأطفال؟

استخدام السوشيال ميديا بين الأطفال

 

في إحدى المدارس الأسترالية، كانت «كيرا بندرجاست»، خبيرة السلامة الرقمية والمدافعة عن حماية الأطفال من المخاطر الإلكترونية، على موعد مع طلاب مراهقين لتقديم محاضرة عن أضرار الإنترنت، لكن ما كان يُفترض أن يكون نقاشًا تربويًا هادفًا، تحول إلى مشهد مؤلم دفعها لمغادرة القاعة في دموع.

فبينما كانت تُعرض صور لنساء على شاشة العرض، بدأ بعض الطلاب بالهتاف والهجوم اللفظي على تلك الصور، باستخدام العبارات نفسها التي يتداولها متابعو مؤثرين على منصات السوشيال ميديا الذين يروجون لثقافة كراهية النساء، وما لبثت إحدى الطالبات أن ألقت تعليقًا مهينًا زادت حدة التوتر في القاعة، ليقرر الجميع مغادرة المكان.

في فيديو نشرته على السوشيال ميديا، قالت «كيرا» بينما تُمسك هاتفها في السيارة، إن «ما رأيته اليوم ليس مجرد سلوك فردي، بل انعكاس مباشر لما يراه هؤلاء الأطفال على الإنترنت. ما حدث هو نتيجة لتأثير ثقافة السمية والعدائية التي تروج لها بعض منصات التواصل».

مأساة جديدة

في الأشهر الأخيرة، تزايدت حوادث الانتحار بسبب التنمر الإلكتروني، آخرها مأساة الطفلتين «شارلوت أوبراين» و«إيلا كاتلي-كروفورد»، اللتين انتحرتا بعد أن تعرضتا لحملة تنمر قاسية عبر تطبيق «سناب شات»، بحسب عائلاتهما اللتان كشفتا عن تفاصيل مؤلمة حول كيفية تلاعب المتنمرين بهويات الفتاتين، ونشرهم لمقاطع فيديو خاصة بهن بعد خداعهن.

وقالت عائلة «إيلا» عبر صفحة جمع التبرعات التي أُنشئت لتغطية تكاليف جنازتها، إن «التنمر عبر وسائل السوشيال ميديا ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل خطر حقيقي يهدد حياة أطفالنا»، ولتسليط الضوء على هذا الواقع المرير، أطلقت العائلة حملة شعبية تطالب برفع الحد الأدنى لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى 16 عامًا، في محاولة لإنقاذ أرواح أخرى.

وفي ظل تصاعد الضغوط المجتمعية، قرر البرلمان الأسترالي المضي قدمًا في مناقشة تشريع يقضي بحظر وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون سن الـ16، وإذا تم إقرار هذا القانون، فسيتعرض مقدمو الخدمات الاجتماعية مثل «فيسبوك» و«إنستجرام» و«تيك توك» إلى غرامات ضخمة تصل إلى 50 مليون دولار أسترالي في حال عدم الامتثال للقانون.

وعلى الرغم من هذه الجهود، فإن هذا التشريع لا يواجه فقط مقاومة من شركات التكنولوجيا الكبرى، بل يعترض عليه أيضًا بعض الخبراء الذين يرون أنه لا يقدم حلًا جذريًا للمشكلة.

هل الحظر هو الحل الفعّال؟

رغم أن الحظر قد يبدو بديلًا مغريًا للمشاكل المتزايدة التي تواجه الأجيال الجديدة في عالم رقمي يعج بالمخاطر، فإن العديد من الخبراء يرى أن الحل لا يكمن فقط في اتخاذ إجراءات سريعة وسطحية.

ويرى الدكتور «دانييل أينشتاين»، أخصائي علم النفس، أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد حظر المنصات الرقمية. ويقول، إن «الآباء لا يمكنهم إيقاف الزمن، لا يمكنهم عزل أطفالهم عن هذه التكنولوجيا. بل يجب أن نعلمهم كيفية التعامل مع العالم الرقمي بشكل آمن». ويضيف، في تصريحات لـ«سي إن إن»، أن «هذه ليست مجرد مسألة تنمر على الإنترنت، بل قضية شاملة تتعلق بكيفية تعلم الأطفال التفاعل مع بعضهم، وكيفية مواجهة التحديات الاجتماعية بطرق صحية».

وتشاركه الرأي الدكتورة «أماندا ثيرد»، الباحثة في مركز «يونج آند ريزيلينت»، مشيرةً إلى أن فرض حظر شامل قد يبدو جذابًا للآباء في البداية، لكنه في الواقع لن يقدم الحلول التي يبحثون عنها، وتضيف: «من المهم أن نبدأ في تعليم الأطفال كيفية التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، لا أن نمنعهم منها بالكامل».

بين المصالح السياسية والصحة النفسية للأطفال

لا يقتصر الجدل حول الحظر على وسائل التواصل الاجتماعي على مجالات الصحة النفسية للأطفال، بل يمتد إلى المصالح السياسية والاقتصادية التي تلعب دورًا كبيرًا في الدفع نحو إقرار هذا التشريع.

وفي أستراليا، يبدو أن المسألة أصبحت جزءًا من الصراع السياسي بين الحكومة الحالية، التي تدعم التشريع، والعديد من الشركات الكبرى التي تتحكم في وسائل التواصل الاجتماعي.

ودخلت شركة «ميتا» المالكة لـ«فيسبوك» و«إنستجرام» في صراع مع وسائل الإعلام الأسترالية بعدما قررت قطع التمويل عن المحتوى الإخباري في البلاد، وهو ما أضاف أبعادًا سياسية جديدة لهذه القضية.

من جهة أخرى، تمثل الشركات مثل «سناب شات» و«تيك توك» أنفسهم كأطراف فاعلة في مكافحة التنمر الإلكتروني. على سبيل المثال، قام «سناب شات» بإطلاق حملات توعية تشجع الأطفال على الإبلاغ عن حالات التنمر وحظر المتنمرين. ومع ذلك، تبقى هذه الجهود قاصرة في نظر بعض الخبراء، الذين يرون أن الحل الفعلي يتطلب تغييرًا عميقًا في طريقة التعامل مع التكنولوجيا في المدارس والمنازل.

السبيل إلى التغيير

إن مسألة حظر وسائل التواصل الاجتماعي قد تكون جزءًا من الحل، ولكنها بالتأكيد ليست الحل النهائي، فالتحدي الحقيقي يكمن في بناء جيل جديد قادر على مواجهة تحديات العالم الرقمي بوعي وحذر. كما تقول كيرا بندرجاست، التي تعمل على تعزيز ثقافة الأمان الرقمي، إنه «إذا استطاع قانون واحد أن يحمي حتى طفلًا واحدًا ويضمن له بيئة رقمية آمنة، فإن ذلك سيكون خطوة هامة نحو مستقبل أكثر أمانًا».

لكنها تتابع: «في النهاية، لا يجب أن يتحول هذا الموضوع إلى صراع سياسي، بل إلى قضية إنسانية تهدف إلى حماية أبنائنا من مخاطر لا حدود لها».

وبذلك فإن الآباء والمربون، بالإضافة إلى الحكومات، مطالبون اليوم بإعادة التفكير في كيفية تربية الأطفال في عصر الرقمنة، حيث يجب أن تكون التربية الرقمية جزءًا أساسيًا من العملية التعليمية، مع التأكيد على أهمية التعاون بين جميع الأطراف – من المدارس إلى شركات التكنولوجيا – للحد من خطر التنمر الإلكتروني وتهيئة بيئة رقمية أكثر أمانًا.