“حفظ الله الملكة” جملة لطالما كررها الإنجليز في كل مكان، لكن عند دخول مقاطعة ميرسيسايد، التي تحتضن نادي ليفربول، تتحول الجملة إلى “نحن لسنا إنجليز، نحن سكاوز”.. فما سر الكره الذي يضمره عشاق ليفربول للعائلة المالكة؟
وفاة الملكة إليزابيث
غيرت أنباء وفاة الملكة إليزابيث موازين الأمور في بريطانيا والعالم، حيث أصبحت المملكة المتحدة محط أنظار الملايين حول العالم.
حتى الأحداث الرياضية وكرة القدم توقفت أيضًا، وقرر الاتحاد الإنجليزي تأجيل مباريات الجولة السابعة من البريمير ليج، والدرجات المختلفة من الدوري الإنجليزي؛ حدادًا على رحيل الملكة.
الصمت الذي ساد بريطانيا، قوبل بصخب شديد في مدينة ليفربول، فالكراهية بين الناس في ليفربول تجاه العائلة المالكة والحكومة البريطانية، ليس وليد اللحظة، فهناك وقائع تاريخية حولت ليفربول من المدينة الأكثر شعبية، إلى المدينة المهمشة وعقابها سياسيًا وجغرافيًا منذ عصور.
كيف بدأ كل شيء؟
لنعود عام 1207 حيث بدأ كل شيء.. تتمتع مدينة ليفربول بشخصية فريدة سواء من حيث الأسلوب والموقع والجغرافيا والسكان وكذلك الأديان. فهي موجودة نهر ميرسي والبحر الأيرلندي، وتطل على جانبي اسكتلندا وأيرلندا، لذلك كان من الطبيعي أن يجيد سكانها الصيد والزراعة.
أصبحت مدينة ليفربول من أكبر المدن التي تدر الأموال لبريطانيا، بسبب ازدهار التجارة هناك، وبعد اختراع الآلات البخارية، أصبحت المدينة رائدة في صناعة القطن، وأصبحت مركزًا رئيسيًا لتلك الصناعة الحديثة.
في القرن الـ 19، شهدت ليفربول إنشاء أول خط سكة حديد في العالم، وهو الذي ربط بين مدينتي ليفربول ومانشستر، مما ساهم في نقلة ثقافية كبيرة، لتتحول إلى مركز للصناعة، وخدمات التجارة، والملاحة، والشحن.
كما شهدت مدينة ليفربول إنشاء أول مسجد في بريطانيا عام 1886 وهو المسجد المعروف بمسجد الرحمة.
إلى جانب الإسلام، تشهد المدينة أيضًا وجود أكبر كاتدرائية في بريطانيا وأكبر كنيسة في العالم، والمعروفة باسم “الكاتدرائية الأنجليكانية” والتي أبقت ليفربول بمعزل عن الصراع الديني بين الكاثوليك والبروتستانت في مختلف بريطانيا.
وخلال الحرب العالمية الأولى، كانت ليفربول هي المكان الذي تمركزت فيه القوات الإسكتلندية للدفاع الكامل عن المدينة، وفي الحرب العالمية الثانية كانت ثاني أكبر مدينة بريطانية تتعرض للقصف الجوي، مما أدى إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى.
لم تلق السلطات أي اهتمام للدمار الذي حل بالمدينة، لذا قرر سكان المدينة الحفاظ على بعض آثار الدمار والحروب حتى الآن في جميع أنحاء المدينة.
نقطة التحول
المدينة الجميلة التي كانت مصدر كل ثروة وتطور بريطانيا، تحولت إلى النقيض تمامًا؛ فكل ما حدث كان أمام أعين العائلة المالكة، والحكومة البريطانية.
في خمسينيات القرن الماضي، كان ميناء ليفربول ينافس أكبر الموانئ في أوروبا، لكن الحكومة البريطانية قررت الاعتماد على ميناء مدينة مانشستر، بدلًا من ميناء مدينة ليفربول؛ فارتفع معدل البطالة في ليفربول إلى 50%، وتزايد بشكل كبير مع مرور الوقت.
استمر الوضع في التدهور أكثر فأكثر منذ منتصف الستينيات حتى أوائل العقد الأول من القرن الـ 21، حتى دخلت مدينة ليفربول في عداء مع جارتها مانشستر، ومن هنا نشا العداء الكروي بين ليفربول ومانشستر يونايتد.
حاولت مدينة ليفربول إعادة توظيف عمال الموانئ في وظائف مختلفة، بعد أن تم نقل جميع السفن والقوارب إلى ميناء مانشستر.
دخلت المدينة في عداء شديد للغاية مع وزراء الحكومة البريطانية في فترات مختلفة، لكن “مارجريت تاتشر” كانت صاحبة النصيب الأكبر من الكراهية؛ خاصة أنها كانت وراء التدهور الاقتصادي في المدينة.
بقي الوضع على حاله حتى أصبح توني بلير رئيسًا لوزراء بريطانيا عام 1997، وبعده جوردون براون عام 2007، وعادت الروح إلى المدينة وأصبحت القلب النابض لما حولها من جديد.
كارثة هيلزبره
من أكثر القصص حزناً في تاريخ كرة القدم، ما حدث لمشجعي ليفربول عام 1989 فيما عرف إعلامياً بـ “كارثة هيلزبره”، عندما لقي 96 مشجعًا مصرعهم في ملعب كرة قدم.
في ذلك الوقت، اتخذ الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم قرارًا غريبًا بإقامة مباراة بين ليفربول ونوتنجهام فورست في نصف نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي، على ملعب شيفيلد وندسور المعروف باسم “هيلزبره”، وهو الذي يتسع لـ 35 ألف مشجع فقط.
ما يجعل استاد هيلزبره اختيارًا سيئًا للغاية لمباراة تجمع أكبر فريقين من حيث الجماهير في الثمانينيات، حيث كان ليفربول ونوتنجهام في منافسة استثنائية محلية وأوروبية على بطولات مختلفة.
وما زاد الطين بلة هو تخصيص مدرج لمشجعي ليفربول يتسع لـ 16 ألف مشجع فقط، وهو أمر غير مناسب على الإطلاق لحشد كبير مثل جماهير ليفربول، الذين اعتادوا منذ فترة طويلة الزحف خلف فريقهم في كل مكان.
عوامل أدت للكارثة
في الثمانينيات، كان سائدًا في تصميم الملاعب، وضع سياج حديدي يفصل بين المدرجات والملعب بسبب انتشار ظاهرة المشاغبين.
أما عن الطريق إلى ملعب المباراة، فقد تم تخصيص طريق واحد فقط لسكان ميرسيسايد للوصول إلى الملعب، وفجأة شهد هذا الطريق أعمال صيانة عطلت حركة المرور لساعات، وبالطبع تأخر وصول المشجعين.
أما القوات الأمنية التي نظمت المباراة وقتها فقد لجأت إلى قرار استثنائي ومفاجئ، بعد السماح لجمهور ليفربول بالدخول من بوابة واحدة فقط، وانسحبت تلك القوات من البوابات الأمامية أيضًا، مما أدى إلى اندفاع الجماهير للدخول إلى الملعب بسرعة.
لم يستغرق الأمر سوى 3 دقائق و6 ثوان حتى توقفت المباراة، على إثر أصوات صراخ الأطفال والكبار ووقوع الكارثة، عندما تمسكت جماهير ليفربول بالسياج الحديدي وظل التدافع بينهم، حتى وصلت القوات الأمنية متأخرة، وفتحت السياج للسماح لأعداد من الجماهير بالنزول إلى الميدان.
كل هذا تسبب في وفاة 96 من مشجعي ليفربول، أصغرهم كانت تبلغ من العمر 10 سنوات، وأكبرهم كان عمره 75 عامًا.
في نفس يوم حادثة هيلزبره، روجت قوات الأمن داخل الملعب لرواية أن جماهير ليفربول كانوا يشربون الخمر بشراهة ويتبولون على الشرطة أمام بوابات الملعب، وفي اليوم التالي للكارثة، داست مارجريت تاتشر، أو كما يسميها مشجعو ليفربول “تاتشر العجوز الشريرة” على دماء الجماهير داخل ملعب “هيلزبره”، وكانت تروج لنفس القصة التي روتها قوات الأمن.
خرج أهالي ضحايا هيلزبره مع جماهير ليفربول في مظاهرات، ونظموا وقفات احتجاجية للرد على مزاعم “تاتشر” المخزية، حتى دعمهم نادي ليفربول وإدارته وتولى ملف القضية من 1989 إلى 2012.
براءة بعد 23 عامًا
في الـ 12 من ديسمبر 2012، أكد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، براءة جماهير ليفربول من “الافتراءات”.
وأكد أمام مجلس العموم البريطاني أن الشرطة أخفت الأدلة والحقائق التي تدينهم، باعتبارها السبب الرئيسي للحادث.
اختتم ديفيد كاميرون بيانه بكلمات قاسية وملهمة في نفس الوقت، عندما قال: “أعتذر بصدق، نيابة عن كل هذا البلد، عن الظلم الذي لحق بأسر الضحايا. ظلم مزدوج بالفعل، مشجعو ليفربول لم يكونوا سبب تلك الكارثة إلى الأبد”.